القرآن لا يستخدم صراحة عبارة «سقوط الإنسان كحرية»، لكنه يوضح هذا المفهوم من خلال قصة آدم وحواء وتأكيده على الإرادة الحرة للإنسان. هذا يعني أن إمكانية الخطأ والانحراف (السقوط) ليست سلبًا للحرية، بل هي نتيجة مباشرة لممارسة الإرادة الحرة للإنسان.
في القرآن الكريم، على الرغم من أن تعبير «سقوط الإنسان كحرية» لم يُستخدم بهذا اللفظ تحديدًا، إلا أن المفهوم العميق الكامن وراء هذا التساؤل قد تم توضيحه باستفاضة ووضوح في آيات عديدة. يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الإنسان كائن مختار يتمتع بإرادة حرة. هذه الحرية والاختيار يفسحان المجال أمام الإنسان للارتقاء والكمال، وفي الوقت نفسه يوفران أرضية لـ«سقوطه» بمعنى الخطيئة والخطأ والانحراف عن الطريق الصحيح. في الواقع، هذا السقوط ليس بسبب سلب الحرية، بل هو نتيجة مباشرة وتداعيات لممارسة تلك الحرية والاختيار نفسها. القصة المحورية التي تجسد هذا المفهوم هي قصة آدم وحواء عليهما السلام في الجنة. أمر الله سبحانه وتعالى آدم وحواء بعدم الاقتراب من شجرة معينة، ولكن الشيطان وسوس لهما. هنا، على الرغم من علمهما بالأمر الإلهي، اتخذ آدم وحواء، بإرادتهما واختيارهما، قرارًا بأكل الثمرة من تلك الشجرة. هذا الاختيار، الذي أدى إلى «هبوطهما» وخروجهما من الجنة ونزولهما إلى الأرض، يُعد مثالًا واضحًا لممارسة حرية الإنسان. الهبوط إلى الأرض لم يكن مجرد خفض إجباري للمكانة، بل كان جزءًا من الخطة الإلهية لبدء الحياة البشرية على الأرض واختبار الإنسان في بوتقة الاختبار الحر. من هذا المنظور، فإن «سقوط» آدم الأولي يرمز إلى أن البشر، بامتلاكهم للاختيار، يمكنهم اختيار مسار يحمل عواقب، حتى لو بدت تلك العواقب «تدنيًا» في الظاهر. يشير القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى مسؤولية الإنسان عن أفعاله، ويؤكد أن كل شخص يختار طريقه بحرية. لقد أظهر الله طريق الحق والباطل، وترك الإنسان حرًا في اختياره. يقول تعالى: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا» (سورة الشمس، الآيات 7-10). هذه الآيات تُظهر بوضوح أن الإنسان يتمتع بقوتين داخليتين (الفجور والتقوى)، وأن الاختيار بينهما يعود إليه. إن اختيار الفجور (الذنب والخطأ) يمكن أن يكون نوعًا من «السقوط» الذي تُمكّنه حرية الإنسان. إن الغاية من منح هذه الحرية هي الابتلاء والاختبار. الحياة الدنيا هي ميدان لاختبار البشر، ليتضح أيّهم أحسن عملًا. هذا الاختبار لا يكتسب معناه إلا في ظل الحرية والاختيار. فلو كان الإنسان مجبورًا على الطاعة، لزال مفهوم الامتحان والثواب والعقاب. لذلك، فإن إمكانية «السقوط» أو الخطأ هي جزء لا يتجزأ من هذه الحرية، وبدونها، لما كان للحرية معنى ولا للاختبار الإلهي قيمة. يقول القرآن صراحة: «قُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (سورة الكهف، الآية 29). هذه الآية تعبر بوضوح عن الحرية المطلقة للإنسان في الاختيار بين الإيمان والكفر. واختيار الكفر هو بحد ذاته مثال على «السقوط» الذي يحدث نتيجة حرية الإرادة. ومع ذلك، فإن القرآن لا يعتبر هذا «السقوط» نهاية المطاف للإنسان أبدًا. بل يفتح دائمًا باب التوبة والعودة والإصلاح. يستطيع الإنسان، بعد كل زلة أو خطأ، أن يعود إلى طريق الحق بالتوبة والإنابة إلى الله، بل وقد يكتسب درجات أعلى من الكمال. إن هذه القدرة على العودة هي إشارة أخرى لرحمة الله وتأكيد على الجانب الإيجابي للحرية، التي يمكن أن تقود إلى الخلاص. يقول تعالى: «إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا» (سورة الفرقان، الآية 70). هذه الآية تُظهر أنه حتى بعد «سقوط» (خطيئة)، فإن الطريق مفتوح لتحويلها إلى حسنات. باختصار، يشير القرآن إلى أن إمكانية «السقوط» (بمعنى الانحراف أو الخطيئة أو العصيان) هي ضرورة متأصلة في الكائن الذي أنعم عليه بهبة الإرادة والاختيار. هذا «السقوط» هو في الواقع نتيجة لممارسة الحرية، وليس حرمانًا منها. فبحرية الإنسان يمكنه أن يرتقي إلى قمم الكمال أو يهوي إلى حضيض الانحطاط، وهذا الاختيار يضع على عاتقه مسؤولية عظيمة. إن فهم هذا الأمر يساعدنا على إدراك الحرية ليس فقط كحق، بل كمسؤولية إلهية كبرى تحدد مسار سعادتنا أو شقاوتنا.
يُروى أنه في العصور القديمة، كان هناك مصارع شهير ذاع صيته في كل مكان لبراعته. علّمه أستاذه جميع الفنون، باستثناء حركة واحدة مخفية احتفظ بها لنفسه. الطالب، الذي امتلأ بالغرور والخيلاء، وشعر بالقوة الكامنة في نفسه، تحدى أستاذه ذات يوم في مبارزة في ساحة المدينة. حاول الأستاذ برفق أن يثنيه عن ذلك، لكن الطالب رفض، معلنًا بتكبر: «أنا الآن لا أُضاهَى، وقد تعلمت منك كل الفنون!» رأى الأستاذ أنه لا مفر من كشف الحقيقة، فقال له بحزم: «وإن ظننت أنك بلغت القمة، فإن خطيئة كبريائك ستُلقيك في هاوية سحيقة.» في خضم المعركة، استخدم الأستاذ تلك التقنية السرية لإسقاط الطالب المغرور على الأرض، مما جعله يركع. شعر الطالب بالعار والندم من ذلك «السقوط»، لكنه تعلم درسًا عظيمًا: أن الحرية في اختيار المسار يمكن أن تؤدي إما إلى القمة أو إلى السقوط، وأن التواضع ومعرفة حدود النفس فقط هي التي يمكن أن تحمي الإنسان حقًا من السقوط الحقيقي. ومنذ ذلك اليوم، ظل المصارع، على الرغم من قوته، متواضعًا، عالمًا أن كل زلة هي نتيجة اختيار اتخذه بحريته.