يشير مفهوم 'الابتلاء الإلهي' في القرآن إلى التجارب التي يضعها الله ليُظهر حقائق الإنسان الداخلية، ويُنقّي النفوس، ويُعلي الدرجات الروحية. يمكن أن تتجلى هذه الاختبارات في الشدائد أو النعم، وهدفها الأساسي هو نمو الإنسان وكماله.
يُعدّ مفهوم 'الابتلاء الإلهي' من المفاهيم الأساسية والعميقة التي تناولها القرآن الكريم، ويُبين جزءاً كبيراً من فلسفة الخلق ومسيرة التطور الإنساني. هذا المفهوم ليس ظاهرة عشوائية، بل هو جزء لا يتجزأ من السنن الإلهية في حياة البشر. من منظور القرآن، يبتلي الله تعالى البشر ليظهر حقيقتهم الداخلية، وليس لأن الله يحتاج إلى المعرفة، فهو العليم بكل شيء. الهدف الرئيسي من هذه الابتلاءات هو تمييز المؤمنين الصادقين عن المدعين، وتطهير النفوس، وتنمية القدرات الكامنة، وتقوية الإرادة والصبر، وفي النهاية، رفع الدرجات الروحية للإنسان في مسار القرب الإلهي. يطرح القرآن الكريم أنواعاً مختلفة من الابتلاءات التي يمكن أن تتجلى في جوانب متعددة من حياة الإنسان. أحد أبرز الأمثلة ما ورد في سورة البقرة، الآية 155، حيث يقول الله تعالى: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". تُظهر هذه الآية بوضوح أن الابتلاءات يمكن أن تظهر على شكل مصائب وكوارث، أو صعوبات اقتصادية، أو أمراض، أو فقدان الأحباء، أو حتى أزمات أمنية ونفسية. هذه الصعوبات هي ميادين لاختبار صبر الإنسان وتوكله وإيمانه. لكن الابتلاءات الإلهية لا تقتصر على المعاناة والشدائد فحسب. ففي بعض الأحيان، يختبر الله البشر بالنعم والمسرات أيضاً. فكثرة المال، والقوة، والجمال، والمكانة، والأولاد، كل منها يمكن أن يكون اختباراً عظيماً لقياس الشكر، والعدل، والتواضع، وكيفية استخدام هذه النعم بالشكل الصحيح. فهل الإنسان يتكبر ويطغى في مواجهة النعم، أم أنه يشكر الله ويستخدمها في سبيله؟ هذا أيضاً نوع آخر من الابتلاء الذي أشار إليه القرآن؛ فمثلاً، في سورة الفجر، الآيات 15 إلى 17، يُشار إلى أنه عندما يمنح الله نعمة للإنسان، يرى البعض ذلك علامة على كرم الله وفضله، بينما عندما يُنزع منه شيء، يعتبرونه علامة على الإهانة وعدم الرضا، في حين أن كلتا الحالتين يمكن أن تكون اختباراً للعبد. الهدف من هذه الابتلاءات ليس مجرد إحداث الألم والمشقة، بل هي فرصة للإنسان لينمو ويتطور، ويتعرف على ذاته، ويصحح عيوبه من خلال اتخاذ ردود الفعل الصحيحة تجاه التحديات والنعم. هذه العملية تشبه تنقية الذهب في البوتقة؛ فكلما زادت الحرارة والضغط، زالت الشوائب وأصبح الجوهر أنقى. يؤكد القرآن كثيراً على الصبر والثبات في مواجهة الابتلاءات. ويُنصح المؤمنون بألا يجزعوا أو يصرخوا عند مواجهة الصعاب، بل أن يتحلوا بالصبر، ويتوكلوا على الله، ويستعينوا بالصلاة والدعاء. بهذه الطريقة، لا تضر الابتلاءات الإيمان، بل تقويه وتجعله أكثر رسوخاً. في الواقع، فلسفة الابتلاء في القرآن هي إكمال وتكامل وجود الإنسان. هذه الابتلاءات تُظهر من هو المؤمن الحقيقي والثابت على طريق الله، ومن هو المؤمن بالاسم فقط ويضعف في الشدائد. ولهذا السبب، يعتبر القرآن الكريم الحياة الدنيا ميداناً للاختبار ويقول: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" (سورة الملك، الآية 2). وهذا يدل على أن الحياة بأكملها هي ميدان اختبار عظيم، هدفها رفع جودة أعمال وسلوكيات البشر. وبالتالي، يمكن القول إن الابتلاء الإلهي في القرآن ليس عقاباً، بل هو آلية تربوية وتكاملية. يضع الله، بمقتضى علمه وحكمته اللامحدودة، البشر في ظروف تكشف عن طبيعتهم الحقيقية، وقدراتهم الكامنة، ومستوى إيمانهم وتوكلهم. تساعد هذه العملية الإنسان على السير في طريق السعادة والوصول إلى مكانته الحقيقية في هذا الكون. فهم هذا المفهوم يمنح الإنسان الطمأنينة، لأنه يعلم أن كل مصيبة أو نعمة هي رسالة من الله وفرصة للنمو والتقرب، وليست مجرد حدث لا معنى له أو عشوائي. هذا المنظور يشجع الإنسان على السعي في كل الظروف، بالتضرع والرجوع إلى الله، لإيجاد سبيل لنيل الفيض والترقي، وبناء جسر نحو الكمال من كل ابتلاء.
يُروى في گلستان سعدي أن ملكاً عادلاً كان لديه عبد وفيّ. ذات يوم، وقع هذا العبد في الأسر بيد الأعداء في إحدى الحروب. حزن الملك حزناً شديداً لهذا الأمر، وحاول جاهداً أن يحرره، لكنه لم يتمكن من ذلك. قضى العبد في الأسر الأيام والليالي في شدة ومشقة، لكنه لم يتذمر قط، وكان دائماً شاكراً لربه الذي وضعه في هذا الاختبار ليقوى إيمانه. كان يقول في نفسه: "لعل هذه الشدائد تطهر ذنوبي وتقربني من الله." بعد سنوات عديدة، قام ملك آخر، غزا تلك البلاد، فأخذ العبد غنيمة. ولكن هذا الملك الجديد كان رجلاً صالحاً، وعندما رأى أن العبد، على الرغم من معاناته الكبيرة، لا يزال صبوراً وتقياً، رقّ قلبه له وأطلق سراحه. عاد العبد إلى مدينته، واندهش الناس عندما رأوا أنه على الرغم من المصائب الكثيرة التي ألمت به، لم ينحنِ جبينه، بل ظهر على وجهه هدوء ونور إلهي. لقد أدرك أن الابتلاءات الإلهية، وإن كانت صعبة، فهي في النهاية لنمو الروح البشرية وسموها، وبالصبر والتوكل، يتحول كل بلاء إلى نعمة.