على الرغم من أن القرآن الكريم لا يستخدم صراحة مصطلحي 'العقل النظري' و 'العقل العملي'، فإنه يؤكد بقوة على كل من إدراك الحقائق (مثل التفكر في الخلق) وأداء الأعمال الصالحة (مثل إقامة العدل والإحسان). وفي الرؤية القرآنية، هذان الجانبان متلازمان؛ فالمعرفة دون عمل لا تثمر، والعمل دون بصيرة غير كافٍ.
عند مواجهة سؤال العلاقة بين العقل النظري والعقل العملي في القرآن الكريم، من الضروري أولاً الإشارة إلى أن المفاهيم الدقيقة لـ 'العقل النظري' و 'العقل العملي' كما هي مطروحة في الفلسفة الإسلامية واليونانية، لا توجد بنفس هذه المصطلحات حرفياً في النص القرآني. يستخدم القرآن الكريم بشكل أساسي مصطلح 'العقل' ومشتقاته، وكذلك مفاهيم مثل 'التفكر' و 'التدبر' و 'التذكر' و 'أولي الألباب' و 'الحكمة'، للإشارة إلى الجوانب المختلفة لوظائف العقل والفكر البشري. ومع ذلك، من خلال التدبر في الآيات الإلهية، يمكن للمرء أن يدرك بوضوح أن القرآن يولي أهمية لكلا الجانبين الإدراكي (المعرفي) والتحفيزي (العملي) للعقل، ويقدمهما في علاقة وثيقة لا تتجزأ. ببساطة، يؤكد القرآن أن المعرفة الحقيقية لا تثمر بدون عمل صالح، وأن العمل الصالح يجب أن ينبع من فهم عميق وفكر سليم. **العقل النظري (البعد المعرفي والإدراكي للعقل في القرآن):** يدعو القرآن مرارًا وتكرارًا الإنسان إلى التفكر والتدبر والتعقل في الآفاق والأنفس. هذه الدعوة هي بمثابة تشجيع لاستخدام 'العقل النظري'؛ وهو العقل الذي وظيفته إدراك حقائق الوجود، وفهم الآيات الإلهية في الطبيعة والتاريخ، وحتى داخل وجود الإنسان نفسه. القرآن الكريم مليء بالآيات التي توصينا بالنظر في خلق السماوات والأرض، وتناوب الليل والنهار، وحركة الفلك في البحر، ونزول المطر وإحيائه للأرض بعد موتها، وتنوع خلق الحيوانات والنباتات، وإيجاد علامات فيها لـ 'أولي الألباب' (أصحاب العقول). هذا النظر العميق والبحثي يؤدي إلى اكتساب المعرفة والبصيرة. العقل النظري في هذا الإطار هو قوة التمييز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، ومعرفة الله كخالق ومدبر وحيد للكون. والهدف من هذه المعرفة ليس مجرد تجميع المعلومات، بل الوصول إلى إيمان راسخ ويقين قلبي، والذي بدوره سيكون مصدر الأعمال الصالحة. يمدح القرآن من يتفكرون ويصلون إلى المعرفة، ويندد بشدة بمن لا يستغلون عقولهم في فهم الحقائق، ويصفهم بأنهم كالأنعام، بل أضل سبيلاً. هذا البعد من العقل يبني الأسس الاعتقادية والإيمانية للإنسان ويوجهه نحو فهم صحيح للرؤية التوحيدية للكون. **العقل العملي (البعد التحفيزي والسلوكي للعقل في القرآن):** بالإضافة إلى الدعوة إلى معرفة وإدراك الحقائق، يؤكد القرآن بنفس القدر على أهمية 'العمل الصالح' والالتزام بالمبادئ الأخلاقية والسلوكية. هذا الجانب من العقل هو ما نسميه 'العقل العملي'، وهو المسؤول عن توجيه الإنسان نحو الاختيارات الصحيحة، وأداء الأعمال الطيبة، والابتعاد عن القبائح والذنوب. العقل العملي في القرآن هو قوة، بالاعتماد على المعرفة التي اكتسبها العقل النظري، تميز طريق الحياة الصحيح وتدفع الإنسان نحو الخير والفضائل. الأوامر القرآنية بشأن العدل، والإحسان، والصدق، والصبر، والعفة، والوفاء بالعهد، واحترام الوالدين، ومساعدة المحتاجين، والابتعاد عن الظلم، والكذب، والغيبة، والربا، والعدوان، كلها مظاهر لوظيفة العقل العملي. هذا الجزء من العقل لا يقتصر على تعليم الإنسان ما هو صحيح، بل يوفر أيضًا الدافع اللازم لأدائه. يرتبط العقل العملي في القرآن ارتباطاً وثيقاً بمفهوم 'التقوى' (الخشية من الله والورع)؛ وهي ثمرة العلم والبصيرة وتظهر في العمل. فالحياة المتقية هي قمة تجلي العقل العملي الذي يختار فيه الفرد، مستخدماً المعرفة الإلهية، أفضل وأحسن السبل للعيش، ويبتعد عن كل ما نهى الله عنه. **العلاقة المتبادلة والمتلازمة بين العقل النظري والعملي في القرآن:** لا يفصل القرآن الكريم بأي حال من الأحوال بين العقل النظري والعملي، بل يقدمهما كلاهما ضرورياً للآخر ومتمماً له. في المنظور القرآني، يجب أن يؤدي إدراك الحقائق (العقل النظري) إلى العمل الصحيح (العقل العملي)، وقد يكون العمل الصحيح ناقصاً أو حتى مضللاً بدون أساس فكري ومعرفي قوي. تذكر العديد من آيات القرآن الكريم الإيمان والعمل الصالح جنباً إلى جنب، مثل "الذين آمنوا وعملوا الصالحات". هذا الارتباط الوثيق يوضح أن الإيمان (الذي هو نتاج العقل النظري والمعرفة القلبية) لا يكتمل ويستحق الثواب إلا إذا كان مصحوباً بالعمل الصالح (نتيجة العقل العملي). فالذين يعلمون ولا يعملون، ذُموا في القرآن بشدة، كما في وصفهم بـ "مثل الحمار يحمل أسفاراً". من ناحية أخرى، قد تكون الأعمال بدون بصيرة ومعرفة عمياء أو مدفوعة بالأهواء، ولا تؤدي إلى النجاة الحقيقية. من خلال التأكيد على 'التدبر' في الآيات ثم 'العمل' بها، يبني القرآن عملياً جسراً قوياً بين هذين الجانبين من العقل. فالحكمة الحقيقية التي يشير إليها القرآن هي تلك البصيرة التي تمكن الفرد من معرفة الحقائق وتطبيقها في حياته العملية. بعبارة أخرى، يعلمنا القرآن أن التفكر والتدبر يجب أن يكون لهما ثمرة عملية في الحياة، ويجب أن تكون أعمالنا متجذرة في المعرفة والبصيرة الإلهية. هذا التفاعل الديناميكي والثنائي الاتجاه يوجه الإنسان نحو الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة، ويساعده على فهم مكانه في نظام الوجود وأداء مسؤولياته على أكمل وجه. في الختام، يمكن القول إن القرآن الكريم، بشكل ضمني ومن خلال مفاهيم متعددة، قد أوضح العلاقة بين العقل النظري والعقل العملي. هذه العلاقة ليست تناقضاً، بل هي رابط تآزري وضروري ينظم الحياة الروحية والمادية للإنسان، ويوجهه نحو الهدف الأسمى من الخلق، ألا وهو العبودية الخالصة والحياة السعيدة. فبدون العقل النظري، يحرم الإنسان من إدراك ومعرفة حقائق الوجود، وبدون العقل العملي، تظل معرفته مجرد نظرية لا جدوى منها ولا تؤدي إلى تغيير حقيقي في حياته. هذان الجناحان ضروريان تماماً ومتكاملان لرحلة الإنسان نحو الكمال.
يُروى في روضة السعدي (گلستان) أن حكيماً كان يتحدث إلى تلاميذه عن أهمية العلم والمعرفة. فسأل أحد التلاميذ: «يا أستاذ، لماذا لا تتطابق أفعال بعض العلماء مع أقوالهم؟» فابتسم الحكيم وقال: «العلم الذي يبقى في الذهن فقط ولا يتحول إلى عمل، هو كالشجرة التي لا تثمر. ذات يوم، كان لملك حكيم وزير ذو علم غزير، وقد حفظ كل الكتب، ولكنه كان يرتكب الأخطاء دائماً في إدارة شؤون الدولة. فاستبدله الملك بشخص أقل علماً ولكنه أكثر صلاحاً في عمله، قائلاً: 'علم لا يُنتفع به، خيرٌ من عدمه، كالبقرة التي تتعب ولا تأكل الشوفان.'» تُظهر هذه القصة لسعدي بجمال أن حقيقة العقل تكمن ليس فقط في فهم الحقائق (العقل النظري)، بل أيضاً في تطبيق تلك المعرفة لحياة فاضلة ومثمرة (العقل العملي)؛ هذان الجناحان ضروريان وغير قابلين للفصل لرحلة الإنسان نحو السعادة.