تتناول جميع سور القرآن الرحمة الإلهية بطريقة ما، لكن سوراً مثل الفاتحة، الأنعام، الأعراف، والزمر تتناول هذه الصفة الإلهية الرئيسية بشكل أكثر وضوحاً. الرحمة الإلهية شاملة ولا حدود لها، وتتعلق بجميع الكائنات ومغفرة الذنوب.
الرحمة الإلهية هي عمود الفقري للتعاليم القرآنية وحجر الزاوية في العلاقة بين الخالق ومخلوقاته. في الواقع، لا يمكن العثور على سورة في القرآن لم تتحدث بطريقة أو بأخرى عن التجليات اللامتناهية للرحمة الإلهية، فكل سورة (باستثناء سورة التوبة) تبدأ بـ "بسم الله الرحمن الرحيم"، والتي هي بحد ذاتها مصدر ورمز لصفتين عظيمتين من صفات الله: "الرحمن" (الواسع الرحمة) و "الرحيم" (الدائم الرحمة). هذا التكرار المستمر في بداية كل سورة يدل على شمولية الرحمة وأولويتها في النظام الكوني وفي نظرة الله لعباده. تشير صفة "الرحمن" إلى الرحمة الإلهية العامة والشاملة التي تشمل جميع المخلوقات، المؤمن والكافر على حد سواء، وجميع جوانب الخلق؛ من المطر وأشعة الشمس إلى النعم المادية والروحية التي لا تعد ولا تحصى والمتاحة للجميع. أما صفة "الرحيم" فتشير إلى الرحمة الإلهية الخاصة والدائمة التي تشمل المؤمنين والصالحين بشكل خاص، وتشمل المكافآت الأخروية والهدايات الخاصة. على الرغم من أن جميع السور تشير بطريقة ما إلى الرحمة الإلهية، إلا أن بعض السور والآيات قد تناولت هذا الموضوع بتركيز وصراحة أكبر. في سورة **الفاتحة** المباركة، والتي تُسمى بحق "أم الكتاب"، وبعد حمد وثناء رب العالمين مباشرة، يتم تقديم الله بصفات "الرحمن الرحيم". هذا الاختيار في بداية القرآن يشير إلى أن الرحمة الإلهية هي أساس علاقة الخالق بالوجود والإنسانية. هذه السورة، بوصفها الله بأنه "مالك يوم الدين"، أي صاحب يوم الجزاء، تُظهر أنه حتى في يوم الحساب والعدل، فإن رحمته جارية وسائدة، وبدون رحمته، لا أحد يستطيع الصمود. وتقول سورة **الأنعام** في الآية 12: "قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلْ لِلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ". هذه الآية عميقة جداً وذات مغزى، لأن "كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" تعني أن الله قد أوجب الرحمة على نفسه ليس من إكراه خارجي، بل من إرادته وجوهره. هذا البيان يدل على الطبيعة الجوهرية والدائمة للرحمة الإلهية، والتي لا يحدها أي شرط، وتجري في جميع أفعاله وصفاته. وتشير سورة **الأعراف** أيضاً في الآية 156 إلى الاتساع اللامتناهي للرحمة الإلهية: "...وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..." هذه الجملة تأكيد على شمولية الرحمة الإلهية التي لا يخرج شيء في الخلق من دائرتها. هذه الآية تمنح الإنسان الأمل بأنه مهما أخطأ، يجب ألا ييأس أبداً من رحمة الله الواسعة، لأن هذه الرحمة أوسع من أي ذنب أو خطأ. من أجمل تجليات الرحمة الإلهية ما ورد في سورة **الزمر**، الآية 53: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". تفتح هذه الآية باباً من الأمل أمام المذنبين وتذكر صراحة أن حتى أولئك الذين غرقوا في الذنوب، يجب ألا ييأسوا من رحمة الله، بل بالتوبة والعودة، يمكنهم الحصول على المغفرة الكاملة. هذه الدعوة المباشرة "يا عبادي" تدل على قرب الله وحنانه تجاه مخلوقاته. كما أن سوراً مثل **يوسف** تُصوِّر الرحمة الإلهية بشكل ضمني وفي قالب قصصي. قصة النبي يوسف مليئة بدروس الصبر والعفو والفرج الإلهي بعد الشدائد، وكلها تجليات لرحمة الله الواسعة. وسورة **الكهف** أيضاً، بقصص مثل أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، تُظهر كيف أن الرحمة والعلم الإلهيين يتجاوزان الفهم البشري، وأحياناً الشدائد والأقدار نفسها تحمل رحمة خفية. في سورة **مريم**، من خلال قصتي زكريا ومريم، يُصوَّر تجلي الرحمة الإلهية في مواجهة اليأس والمعجزات. بشكل عام، يمكن القول إن الرسالة الأساسية للقرآن الكريم مبنية على الرحمة. الرحمة الإلهية لا تشمل فقط مغفرة الذنوب وهداية البشر، بل تجري وتتخلل الخلق المنظم والدقيق للكون، في إرسال الأنبياء والكتب السماوية، في الفرص المتعددة للتوبة والعودة، وفي كل نفس نأخذه. فهم عمق هذه الرحمة لا يمنح الأمل والسلام لقلب الإنسان فحسب، بل يدفعه أيضاً نحو الشكر والعمل الصالح وعكس هذه الرحمة في التعامل مع الآخرين. وبالتالي، فإن موضوع الرحمة الإلهية ليس محصوراً في بضع سور معينة، بل هو روح شاملة متغلغلة في كل نسيج القرآن، وكل آية تشير بطريقة ما إلى هذا البحر اللامتناهي. الأمل في رحمة الله هو الدافع الأساسي للتحرك نحو الكمال والابتعاد عن اليأس، وهذا هو المحور الرئيسي للرسالة الإلهية.
يُروى في گلستان سعدي أن ملكاً عادلاً كان لديه عبد ارتكب أخطاء متكررة. حكم جميع الوزراء وحاشية الملك بالإعدام عليه، لكن الملك توقف لحظة. تذكر قولاً حكيماً: "رحمة الحق أوسع من ذنب الخلق." فامتلأ قلب الملك بالأمل في الرحمة الإلهية، وبدلاً من العقاب الشديد، عفا عن العبد ومنحه فرصة أخرى. لقد تغير العبد بشكل جذري بفضل رحمة الملك، فقضى بقية حياته في خدمة صادقة وعمل الخير، وأصبح هو نفسه مثالاً للعفو واللطف. هذه القصة تذكرنا بأنه عندما تنزل الرحمة من الأعلى، فإنها تحول القلوب وتغير مسار الحياة، تماماً مثل رحمة الرب اللامتناهية.