ينبع عدم الرضا من التعلق المفرط بالدنيا، وإهمال الآخرة، ونكران الجميل، وضعف التوكل. يكمن الحل في الشكر، والزهد، والتركيز على السلام الداخلي.
إن الشعور بعدم الرضا والعطش الذي لا يرتوي للمزيد هو إحدى السمات المعقدة والتحديّة في وجود بعض البشر، وهي متأصلة بعمق في فهمنا للعالم، وهدف الحياة، وعلاقتنا بالخالق. لقد تناول القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا هذا الجانب من الطبيعة البشرية، موضحًا أسبابه وواصفًا سبل التعامل معه. من المنظور القرآني، السبب الرئيسي لعدم الرضا هو التعلق المفرط بالحياة الدنيا والغفلة عن الآخرة. يُحذر الله سبحانه وتعالى في آيات عديدة من أن مغريات الدنيا خادعة وزائلة، ويجب ألا تصرف الإنسان عن غرضه الأساسي من خلقه. فعندما يكرس الإنسان كل جهده لجمع المال والمكانة والمتع الزائلة من الدنيا، فإنه لن يصل أبدًا إلى نقطة الاكتفاء، لأن طبيعة هذه الدنيا أنك كلما تمسكت بها أكثر، زاد عطشك. هذا الشعور ينبع من الاعتقاد الخاطئ بأن السعادة تكمن في "امتلاك المزيد"، بينما السعادة الحقيقية تكمن في "أن تكون أكثر" وفي السمو الروحي والأخلاقي. سبب قرآني آخر لعدم الرضا هو ضعف الإيمان وقلة التوكل على الله. فعندما لا يكون لدى الفرد إيمان كامل برزق الله وعدله، فإنه سيعيش في خوف دائم من الفقدان أو النقص، وهذا الخوف يدفعه إلى جمع المزيد وتكديسه. على النقيض من ذلك، يدعو القرآن المؤمنين إلى التوكل على الله والثقة به بصفته الرزاق. فمتى عرف الإنسان أن رزقه بيد الله وأن ما قدر له سيصل إليه، فإن القلق بشأن المستقبل والعطش الذي لا يرتوي للمزيد يقلّ. وهذا التوكل يمهد الطريق للرضا والقناعة القلبية. بالإضافة إلى ذلك، يلعب نكران الجميل والكفران بالنعمة دورًا مهمًا في عدم الرضا. يذكر القرآن مرارًا الإنسان بأن نعمًا لا تحصى قد وهبها الله له. لكن بعض الناس، بدلًا من شكر الله على ما لديهم، ينظرون باستمرار إلى ما ينقصهم أو ما يملكه الآخرون. هذه المقارنة غير الصحية والحسدية تجعل الفرد لا يشعر بالرضا أبدًا، ويرى نفسه دائمًا محرومًا، حتى لو كان في قمة الرخاء. الشكر يفتح نافذة لرؤية الوفرة والشعور بالثراء الداخلي الذي يؤدي إلى القناعة. يقول القرآن الكريم: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (إن شكرتم لأزيدنكم)، وهذه الزيادة يمكن أن تكون مادية وروحية، بما في ذلك زيادة الشعور بالرضا والسكينة. كما يشير القرآن إلى طبيعة الإنسان "هلوع" (أي شديد الحرص والجزع). ففي سورة المعارج، يوصف الإنسان بأنه خُلق هلوعًا، إذا مسه الشر جزوعًا، وإذا مسه الخير منوعًا. هذه الطبيعة المتأصلة، إذا لم تُضبط بالتربية الإلهية وتزكية النفس، يمكن أن تتحول إلى جشع لا يرتوي. يعتبر القرآن أن الغرض من الحياة هو الاختبار والابتلاء. فالمال والثروة، وكذلك الفقر والبلاء، هي أدوات اختبار. ومن لا يدرك هذه الحقيقة ويظن أن الهدف الأساسي هو جمع المال، فلن يصل أبدًا إلى القناعة؛ لأن اختبار الدنيا لا ينتهي، وسيكون هناك دائمًا شيء نحسده ونطلبه أكثر. الحل القرآني لتحقيق القناعة هو في الأساس تغيير في النظرة والأولويات. الخطوة الأولى هي إعادة الله إلى مركز الحياة وتعزيز الإيمان باليوم الآخر. فعندما يعلم الإنسان أن الثواب الحقيقي في الآخرة وأن هذه الدنيا مجرد مزرعة للآخرة، تتغير نظرته إلى الماديات. والخطوة الثانية هي ممارسة الشكر والامتنان على النعم الموجودة. والخطوة الثالثة هي الزهد في الدنيا (ليس بمعنى ترك الدنيا، بل بمعنى عدم التعلق القلبي بها). والرابعة، البذل والإنفاق في سبيل الله الذي يحرر الإنسان من قيود الماديات ويجلب لقلبه السكينة. أخيرًا، معرفة النفس وإدراك أن السعادة تكمن في سلام الروح والارتباط بالإلهية، وليس في تراكم الممتلكات. فالإنسان الذي يصل إلى هذا المستوى من الفهم، يشعر بالغنى حتى مع القليل من النعمة، ويغرق في بحر القناعة الذي لا حدود له، لأنه يعلم أن الرضا الحقيقي ليس في الامتلاك اللامتناهي، بل في الوجود النوعي والمليء بالمعنى الذي وهبه الله بفضله وكرمه. هنا تتجلى النفس المطمئنة، أي النفس التي وصلت إلى السكينة، ويتحرر الفرد من دائرة الجشع والطمع التي لا نهاية لها، ويصل إلى بر الأمان والسعادة الحقيقية.
في يوم من الأيام، وسط بستان سعدي، كان هناك ملك ثري، على الرغم من امتلاكه قصورًا فخمة وكنوزًا لا تُحصى، لم يكن سعيدًا أو هادئًا أبدًا. كان قلقًا دائمًا من أن يمتلك شخص آخر ثروة أكبر منه أو أن تتعرض مكانته للخطر. في أحد الأيام، في طريقه، التقى بدرويش يجلس بهدوء تحت شجرة، قنوعًا وسعيدًا بقطعة خبز جافة وماء عذب. سأل الملك بتعجب: "يا درويش، كيف يمكنك أن تكون هادئًا وسعيدًا بهذا القدر القليل، بينما أنا، بكل ما أملك، لا أجد السلام أبدًا؟" ابتسم الدرويش وقال: "يا أيها الملك، السعادة في القلب لا في اليد. أنا راضٍ بما لدي ولا أقلق بشأن ما لا أملكه. أما أنت، فتبحث دائمًا عما لا تملكه وتغفل عما تملكه. ما دام قلبك متعلقًا بالدنيا وعيناك على ما في أيدي الآخرين، فلن تتذوق طعم القناعة أبدًا." تأثر الملك بكلمات الدرويش وأخذ يفكر، أدرك أن الكنز الحقيقي ربما لا يكمن في الخزائن، بل في قلب راضٍ.