لماذا يهرب الإنسان أحيانًا من نفسه؟

يهرب الإنسان أحيانًا من نفسه بسبب إهمال ذكر الله، ونسيان هويته الحقيقية، وتجنب مواجهة خطاياه ومسؤولياته. هذا الهروب يدل على فقدان الطريق والهوية الحقيقية، ولا يمكن إصلاحه إلا بالعودة إلى الله وتزكية النفس.

إجابة القرآن

لماذا يهرب الإنسان أحيانًا من نفسه؟

مفهوم 'الهروب من الذات' هو ظاهرة عميقة ومعقدة في النفس البشرية، لها جذور في الأبعاد الوجودية والنفسية والروحية للإنسان. من منظور القرآن الكريم، يمكن تفسير هذا الهروب كنتيجة وعلامة على انفصال الإنسان عن حقيقته الوجودية، ونسيانه لهدف خلقه، وتجاهله لعلاقته بالخالق. الإنسان كائن ذو وجهين: فمن جهة يمتلك روحًا سامية وفطرة إلهية توجهه نحو الخير والحقيقة والجمال، ومن جهة أخرى يمتلك نفسًا يمكن أن تجذبه نحو الشهوات والأنانية والضلال. هذا الصراع الداخلي هو أحد الأسباب الرئيسية للاضطراب الداخلي ومحاولة الهروب من الذات. يشير القرآن الكريم صراحة إلى هذه المسألة، مبينًا أن أحد أعمق أشكال الهروب من الذات يحدث عندما ينسى الإنسان الله. في سورة الحشر، الآية ١٩، يقول تعالى: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ». هذه الآية تعبر بجمال عن أن نسيان الله يؤدي إلى نسيان الذات. فعندما يغفل الإنسان عن ذكر ربه، يفقد هدف خلقه، تتلاشى هويته الحقيقية، ونتيجة لذلك، تتملكه مشاعر الفراغ، واللامعنى، والاغتراب عن الذات. في مثل هذه الحالة، لا يستطيع الإنسان مواجهة نفسه بصدق؛ لأن حقيقته الوجودية، التي هي الارتباط بالله، قد اختفت عن بصره. هذا النسيان هو هروب عظيم من الداخل، هروب يتجنب فيه الإنسان مواجهة حقيقته التي هي عبادة الله. ونتيجة لذلك، يبحث عن حلول خارجية لتخفيف هذا الاضطراب الداخلي، وهي حلول لا يمكنها أبدًا أن تحل محل حقيقته الوجودية، بل تعمل فقط كمسكنات مؤقتة، مثل الانغماس في الماديات، والملذات العابرة، والشهرة، أو الهروب من المسؤوليات. سبب آخر يدفع الإنسان إلى الهروب من ذاته هو ثقل الذنوب وعدم الرغبة في محاسبة النفس. يكره الإنسان بطبيعته الاعتراف بنواقصه وأخطائه ويميل إلى الهروب من عواقب أفعاله غير المرغوبة. في سورة يوسف، الآية ٥٣، يقول النبي يوسف (عليه السلام): «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ». هذه الآية تبين أن نفس الإنسان تميل إلى السوء، وإذا لم يتم التحكم في هذا الميل، فإنه يؤدي إلى ارتكاب الذنوب التي تضع عبئًا نفسيًا ثقيلًا على الإنسان. تدفع مشاعر الذنب والعار والخوف من العقاب (سواء في الدنيا أو الآخرة) الإنسان نحو الإنكار، والتبرير، أو تجنب مواجهة نفسه وأفعاله. يمكن أن يظهر هذا الهروب في شكل إلقاء اللوم على الآخرين، أو الإصرار على الخطأ، أو إخفاء الحقيقة عن النفس والآخرين. يحاول الفرد أن يحرر نفسه من هذا العبء بالانشغال بأمور تافهة أو بقمع ضميره، لكن هذه الجهود عبثية؛ لأن حقيقته الداخلية تلاحقه دائمًا. علاوة على ذلك، يوضح القرآن أنه في يوم القيامة، سيسعى الإنسان جاهدًا للهروب من حقيقة أعماله. في سورة القيامة، الآيات ١٠-١٢، نقرأ: «يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴿١٠﴾ كَلَّا لَا وَزَرَ ﴿١١﴾ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴿١٢﴾». تظهر هذه الآيات بوضوح أن الميل إلى الهروب من المسؤوليات وعواقب الأفعال له جذور عميقة في الطبيعة البشرية، ولكن في النهاية، هذا الهروب عقيم. لا يوجد ملجأ إلا العودة إلى الله. يحذر هذا المفهوم البشرية من أن الهروب من الذات في هذه الدنيا هو أيضًا باطل؛ لأنه عاجلاً أم آجلاً، يجب على المرء أن يواجه حقيقته الوجودية وأفعاله. الحل الوحيد ليس في الهروب، بل في المواجهة الصادقة، والتوبة، وإصلاح النفس. باختصار، يهرب الإنسان أحيانًا من نفسه لأنه يغفل عن ذكر الله ويفقد هويته الحقيقية، ويخشى مواجهة ذنوبه ونواقصه، وتحت تأثير وساوس الشيطان، يبحث عن طريقة للتخلص من عبء المسؤوليات. لكن القرآن لا يقدم الهروب كحل لهذه الحالة، بل يقدم العودة إلى الذات الإلهية، ومحاسبة النفس، والتوبة والإصلاح، والاستعانة بالله. تغيير وضع أمة أو فرد لا يمكن إلا بتغيير ما في أنفسهم، كما جاء في سورة الرعد، الآية ١١: «…إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ…». هذا التغيير من الداخل هو نهاية الهروب من الذات وبداية السلام الداخلي والمعرفة الحقيقية للذات.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في حدائق شيراز الخضراء، عاش شاب يدعى فريد، كان يعاني باستمرار من اضطراب غريب في قلبه. كان يشعر وكأن طائرًا مضطربًا يرفرف داخل صدره، يحثه على الفرار. لذلك، بدأ رحلات لا نهاية لها، عابرًا الجبال والسهول، باحثًا عن الراحة في الأراضي البعيدة، على أمل أن يترك اضطرابه الداخلي خلفه. كل منظر جديد كان يقدم له إلهاءً مؤقتًا، ولكن مع حلول الليل، كان الطائر المضطرب يعود، ورفرفاته أعلى من ذي قبل. ذات يوم، طلب المشورة من درويش حكيم، كانت عيناه تحملان هدوء الأنهار القديمة. أفرغ فريد قلبه، قائلاً: «أيها الجليل، أنا أهرب من نفسي، ولكن ظلي يتبعني أينما ذهبت!» ابتسم الدرويش بلطف وقال: «يا فريد العزيز، ظلك ليس عدوك، ولا الطائر في قلبك. إنه رسول. أنت تطارد الآفاق، ولكن رحلتك الحقيقية تكمن في داخلك. بدلاً من الهروب، التفت لمواجهة الطائر. اسأله ماذا يريد، واستمع إلى همساته. فالهدوء الذي تبحث عنه في الأراضي البعيدة يُزرع في حديقة روحك، ويُعتنى به بالاستبطان الصادق وذكر الإله.» عاد فريد إلى بيته، ليس للهروب، بل ليجلس في تأمل هادئ. أدرك أن الطائر المضطرب هو ضميره، يحثه على اتصال أعمق بخالقه. وعندما توقف عن رحلته الخارجية واتجه إلى الداخل، غنى الطائر أغنية سلام، وتحول ظل اضطرابه إلى رفيق ثابت يرشده في طريق الحقيقة.

الأسئلة ذات الصلة