ارتكاب الذنوب رغم معرفتها ينبع من وساوس الشيطان، وميول النفس الأمارة بالسوء، والغفلة عن ذكر الله. الحل يكمن في التوبة الصادقة، وذكر الله، والجهاد المستمر مع النفس.
السؤال الذي طرحته هو شاغل عميق ومشترك بين الكثير من الناس؛ وهو أننا على الرغم من معرفتنا بقبح الذنب وعواقبه، إلا أننا ننجذب إليه مرة أخرى. القرآن الكريم، ببصيرته الفريدة، يوضح أبعادًا مختلفة لهذا التحدي البشري الداخلي ويقدم جذوره. في الواقع، يشير هذا السؤال إلى الصراع الداخلي بين العقل والنفس، والإيمان والوسوسة، والمعرفة والعمل، وهو جزء لا يتجزأ من الاختبار الإلهي في حياة الإنسان. أحد أهم الأسباب التي يشير إليها القرآن هو دور «الشيطان» ووساوسه. الشيطان كائن عادى الإنسان منذ البداية، وهدفه هو إضلال بني آدم. يستغل نقاط ضعف الإنسان، ويزين له المعاصي، ويقدم وعودًا كاذبة. الله تعالى في آيات عديدة يشير بوضوح إلى هذه العداوة ومحاولات الشيطان لإغواء البشر. الشيطان يتسلل إلى قلب الإنسان وعقله بأساليب مختلفة وخفية، ويدفعه نحو الأفعال غير المرغوبة. يمكن أن تحدث هذه الوساوس من خلال إثارة الشهوات، أو إيجاد الشك والريبة في القلب، أو تزيين الأعمال الشيطانية. إنه يسعى باستمرار لإغفال الإنسان عن ذكر الله ودفعه إلى غياهب الغفلة والمعصية. هذه الإغراءات خفية وماكرة لدرجة أن الإنسان قد لا يدرك أحيانًا أنه وقع في فخ الشيطان. من المهم أن نعلم أن الشيطان لا يملك سلطة إجبارية على الإنسان، بل هو مجرد داعٍ، والإنسان هو الذي يقبل دعوته أو يرفضها بإرادته. يؤكد القرآن أن الشيطان لا يسيطر إلا على أولئك الذين اتخذوه وليًا وانحرفوا عن الصراط المستقيم. سبب آخر هو طبيعة «النفس الأمارة بالسوء». يوضح القرآن الكريم بوضوح أن نفس الإنسان تميل بطبيعتها إلى الشر والشهوات، إلا إذا نالت لطف ورحمة الله. هذا هو الجزء من وجود الإنسان الذي يدفعه نحو اللذات الدنيوية الزائلة، والأهواء النفسية، والأنانية. النفس الأمارة، على عكس العقل والفطرة النقية للإنسان، تميل إلى إشباع رغباتها دون قيود، وغالبًا ما تتجاهل العواقب الأخروية أو الدنيوية لأفعالها. عندما يواجه الإنسان وسوسة الشيطان، فإن النفس الأمارة تستجيب لهذه الوساوس بإيجابية وتدفع الإنسان نحو الذنب. هذا الصراع الداخلي بين العقل والنفس هو أحد أكبر الاختبارات الإلهية للإنسان. التغلب على النفس الأمارة يتطلب «الجهاد الأكبر» ورياضة النفس؛ أي جهدًا مستمرًا وواعيًا للتحكم في الغرائز وتوجيهها في المسار الصحيح. إذا سمح الإنسان لهذه النفس المتمردة بالتحكم، فإنه سيقع حتمًا في الخطأ. «الغفلة» والنسيان أيضًا عامل مهم في ارتكاب الذنوب. أحيانًا، على الرغم من معرفة الإنسان الكاملة بحكم الذنب وعواقبه، إلا أنه يقع فيه بسبب الانغماس في أمور الدنيا ونسيان الهدف الأساسي من الخلق. يمكن أن تكون هذه الغفلة ناتجة عن قلة ذكر الله، أو الابتعاد عن البيئات الروحية، أو مصاحبة رفاق السوء. يحذر القرآن مرارًا الإنسان من الغفلة ويدعوه إلى التذكر الدائم. نسيان الموت، ويوم القيامة، والحساب الإلهي، وعظمة الله، يمكن أن يجعل الإنسان عرضة للوساوس. عندما يغفل الإنسان عن عواقب أفعاله، تضعف قوته الرادعة الداخلية، ويوفر ذلك البيئة المناسبة للوقوع في الذنب. هذه الغفلة تعمل كحجاب على بصيرة الإنسان وتمنعه من رؤية الحقيقة. كذلك، يمكن أن يكون ضعف الإرادة ووهن الإيمان من الأسباب الأخرى. على الرغم من أن الإنسان يعلم ذهنيًا ما هو جيد وما هو سيئ، إلا أنه أحيانًا لا يمتلك القوة الكافية للمقاومة أمام الوساوس والشهوات. الإيمان القوي هو عامل رادع ضد الذنب، فالمؤمن الحقيقي يراقب دائمًا حضور الله وعواقب أفعاله. أما الإيمان الضعيف والمتذبذب فلا يستطيع مقاومة الضغوط النفسية والشيطانية بشكل صحيح. التقوى وخشية الله، التي يركز عليها القرآن كثيرًا، هي نتيجة الإيمان القوي والإرادة الصلبة التي تمنع الإنسان من الانزلاق. الإيمان الحقيقي ليس مجرد معرفة، بل هو العمل والخضوع لأوامر الله. ومع ذلك، إلى جانب توضيح جذور الذنب، يوضح القرآن أيضًا بوضوح سبل الخروج منه. «التوبة» والعودة إلى الله هي أحد أهم هذه الحلول. لقد فتح الله تعالى باب التوبة دائمًا لعباده ويدعوهم إلى مغفرته ورحمته. التوبة النصوح (التوبة الصادقة) تتضمن الندم على الذنب، والعزم على تركه، ورد الحقوق لأصحابها (إن وجدت). «الذكر وذكر الله» أيضًا درع قوي ضد وساوس الشيطان. من يذكر الله دائمًا، يقل احتمال وقوعه في الذنب. إقامة الصلاة، وتلاوة القرآن، والتفكر في آيات الله، هي طرق لتعزيز هذا التذكر. كذلك، «الجهاد بالنفس» وتربيتها، وتقوية الإرادة، والابتعاد عن البيئات الفاسدة ورفاق السوء، هي أيضًا طرق لمواجهة النفس الأمارة ووساوس الشيطان. في النهاية، بالاستعانة بالله والتوكل عليه يمكن التغلب على هذا الصراع الداخلي وعيش حياة مليئة بالتقوى ورضا الله. هذا الصراع هو عملية مستمرة ولا ينبغي أبدًا اليأس من رحمة الله، حتى لو حدثت زلات متكررة.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك تاجر ثري وذكي يلتزم بكل مظاهر الصلاح ويتجنب الذنوب. ذات يوم، وأثناء سفره، صادف لصًا. فكر التاجر في نفسه: "لقد خفتُ الله دائمًا وتجنبت كل محرم، فلماذا أرجو هذا اللص الآن وقد أصبحت حياتي ومالي في خطر؟" لكن في تلك اللحظة، سيطر خوفه من فقدان ممتلكاته على عقله وإيمانه الذي جمعه عبر السنين. فبدلًا من المقاومة أو التوكل، بدأ يبكي ويتوسل ويعرض رشوة. تعجب اللص من هذا التناقض وقال: "يا شيخ! لقد كنت تدعي الورع، فلماذا تظهر هذا القلق الآن وقد جاء وقت العمل؟" تنهد التاجر وقال: "يا صديقي، المعرفة سهلة، ولكن العمل صعب. الشيطان في لحظة الغفلة يضعف الإيمان ويسحب نفس الإنسان نحو الضعف. لقد ظننت أنني سيد على نفسي، ولكن في هذه اللحظة من الخوف، أدركت حقيقة النفس الأمارة بالسوء." تظهر هذه الحكاية أن الإنسان، حتى مع معرفته وإدراكه للطريق الصحيح، قد يقع تحت تأثير النفس والوسوسة في لحظات الضعف والغفلة، مما يتطلب منه مراقبة دائمة وتوبة.