عدم العمل رغم العلم ينبع من ضعف الإيمان، تأثير الشيطان، حب الدنيا، والغفلة عن الآخرة. الحل يكمن في تقوية الإيمان، التوبة الصادقة، والجهد المستمر لتحويل المعرفة إلى عمل.
السؤال "لماذا لا أعمل بالرغم من علمي؟" يلامس جوهر الصراع البشري والتطور الروحي. إنه تساؤل يواجهه العديد من الأفراد، بغض النظر عن خلفيتهم أو معتقداتهم. في تعاليم الإسلام، ولا سيما ضمن إطار القرآن الكريم، العلاقة بين العلم والعمل عميقة ومتشابكة. العلم ليس مجرد تراكم للحقائق؛ بل هو يهدف إلى إحداث القناعة والتحول، وفي النهاية، العمل الصالح. عندما يكون هناك انفصال بين العلم والعمل، فإن ذلك يشير إلى قضايا أعمق داخل النفس البشرية والحالة الروحية. يؤكد القرآن مراراً وتكراراً على أهمية كل من العلم والعمل. فمعرفة ما هو حق، وما أمر به الله، وما يؤدي إلى السعادة الحقيقية هي الخطوة الأولى. ومع ذلك، فإن هذا العلم يصبح ناقصاً، بل وفي بعض الأحيان عبئاً، إذا لم يترجم إلى ممارسة عملية. يحذر الله سبحانه وتعالى بنفسه من هذا الانفصال، كما هو موضح في سورة الصف (61: 2-3): "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ". هذه الآية تسلط الضوء بقوة على عدم رضا الله من التباين بين القول والفعل، أو بين العلم والعمل. الأمر لا يتعلق فقط بالمعرفة؛ بل يتعلق بتجسيد تلك المعرفة في حياتنا اليومية. تساهم عدة عوامل، مستنيرة بالرؤى القرآنية، في هذه المعضلة الشائعة المتمثلة في المعرفة دون الفعل: 1. ضعف الإيمان واليقين: غالباً ما تكون المعرفة التي نمتلكها معرفة فكرية، لكنها لم تتغلغل بالكامل في قلوبنا لتصبح قناعة راسخة. الإيمان الحقيقي ليس مجرد تصديق بوجود الله وأوامره، بل هو أن يتجلى هذا الاعتقاد في كل ذرة من كياننا. عندما يكون الإيمان ضعيفاً، تقل الدوافع للعمل بما هو معروف. يدعو القرآن باستمرار إلى تقوية الإيمان، لأنه الوقود للأعمال الصالحة. قد يعرف الإنسان أن الصلاة واجبة، ولكن إذا لم يكن إيمانه قوياً بما يكفي للتغلب على الكسل أو المشتتات الدنيوية، فقد يواجه صعوبة في أدائها بانتظام. إن غياب اليقين العميق بمكافآت الأعمال الصالحة وعواقب التقصير في الآخرة يمكن أن يؤدي إلى الرضا عن النفس في هذه الحياة. نحن نعلم أن الله يرانا، ولكننا في بعض الأحيان نتصرف وكأنه لا يرانا، ننسى الوجود الإلهي المطلق. 2. تأثير الشيطان والنفس الأمارة بالسوء: يوضح القرآن أن الشيطان عدو لدود لنا، يسعى باستمرار لإبعادنا عن الصراط المستقيم. يوسوس بالشكوك، ويزين الشر، ويجعل الأعمال الصالحة تبدو مرهقة أو غير مهمة. حتى عندما نعلم ما هو صواب، يعمل الشيطان بلا كلل لخلق الأعذار، أو التسويف، أو غرس الخوف من حكم الآخرين. وإلى جانب الشيطان، فإن "نفسنا الأمارة بالسوء" غالباً ما تميل إلى الراحة والشهوات والإشباع الفوري، مما يدفعنا بعيداً عن الانضباط والجهد المطلوب للأعمال الصالحة. كما يقول الله في سورة يوسف (12: 53): "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي". يتطلب التغلب على هذا الصراع الداخلي يقظة مستمرة، ومحاسبة للذات، واللجوء إلى الله. 3. حب الدنيا ومشاغلها: يمكن أن يطغى جاذبية الممتلكات الدنيوية والمكانة والراحة والملذات الزائلة على أهدافنا الروحية. يحذر القرآن مراراً وتكراراً من الانغماس المفرط في "الدنيا" إلى حد يلهينا عن غايتنا النهائية. عندما يأخذ حب المال أو الأهل أو الانشغالات الدنيوية الأولوية على حب الله ورسوله وأوامره (كما ذكر في سورة التوبة 9: 24)، يصبح العمل بما نعلمه صعباً للغاية. قد نعلم أن الصدقة فضيلة عظيمة، لكن الرغبة في جمع المزيد من الثروة يمكن أن تمنعنا من الإنفاق. نعلم أن ذكر الله أمر حيوي، ولكن الترفيه اللامتناهي والمشتتات يمكن أن تستهلك وقتنا الثمين. هذا التعلق بالعابر غالباً ما يؤدي إلى التسويف، والتفكير بأنه سيكون هناك دائماً "غد" للأعمال الصالحة، بينما تمر الحياة بسرعة. 4. التسويف والكسل: هذه آفة بشرية منتشرة. نحن نعلم ما يجب القيام به، لكننا نؤجله، غالباً إلى أجل غير مسمى. يشجع القرآن على المبادرة والمسارعة في الأعمال الصالحة، ويحث المؤمنين على "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (سورة البقرة 2: 148). إن تأخير الأعمال الصالحة، مثل التوبة أو الصلاة أو الإحسان، يمكن أن يؤدي إلى التخلي عنها تماماً. هذا الجمود غالباً ما ينبع من عدم وجود إلحاح فوري متصور أو التقليل من شأن العواقب الروحية على المدى الطويل. الكسل ليس جسدياً فحسب؛ بل هو روحي أيضاً، ويتجلى في عدم الرغبة في بذل الجهد في طاعة الله. 5. الغفلة ونسيان الآخرة: من أهم أسباب عدم العمل على الرغم من المعرفة هي "الغفلة" – نسيان الله، وهدفنا، والعودة الحتمية إليه. عندما نفقد رؤية يوم القيامة، والمساءلة، والعواقب الأبدية لأعمالنا، فإن الدافع للسعي في هذه الحياة يتضاءل بشكل كبير. يحذر الله من أن نكون "كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (سورة الحشر 59: 19). نسيان النفس هنا يعني نسيان الهوية الحقيقية للإنسان وهدفه ومصيره النهائي، مما يؤدي إلى حياة تُعاش بلا عمل ذي مغزى نحو الآخرة. إن الذكر الدائم لله والتأمل في الموت والحياة الآخرة هما ترياقان قويان للغفلة. العلاجات القرآنية ومسارات العمل: القرآن لا يحدد المشاكل فحسب؛ بل يقدم حلولاً شاملة: * تقوية الإيمان والتقوى: السعي بنشاط لتعميق الإيمان من خلال التأمل في آيات الله (في الخلق والقرآن)، والذكر الدائم لله، ودراسة سيرة الأنبياء والصالحين. التقوى هي الدرع الداخلي الذي يدفع إلى العمل ويقي من الشر. عندما نشعر حقاً بوجود الله ووعيه بأعمالنا، يصبح من الأسهل أن نتصرف ببر. * الإخلاص في النية: تطهير النوايا لتكون خالصة لوجه الله تعالى. عندما تُؤدى الأعمال لله وحده، تصبح العوامل الخارجية مثل الكسل أو الرغبات الدنيوية أقل تأثيراً. * الاستعاذة من الشيطان: تلاوة "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" بانتظام والانخراط في الصلاة والذكر لمواجهة وساوس الشيطان. * المحاسبة الذاتية المستمرة: تقييم الأفعال والأفكار والنوايا بانتظام. ويشمل ذلك التوبة الصادقة عن أوجه القصور واتخاذ قرارات حازمة للتحسين. * البحث عن الصحبة الصالحة: إحاطة النفس بالأفراد الذين يسعون بنشاط نحو الصلاح والذين يشجعون على الأعمال الحسنة. يؤكد القرآن على أهمية الصحبة الصالحة. * فهم قيمة الوقت: إدراك أن الحياة محدودة وأن كل لحظة هي فرصة لتراكم الحسنات. يحثنا القرآن على المسارعة إلى الأعمال الصالحة. * تذكر الموت والآخرة: التأمل في طبيعة هذه الحياة الزائلة والطبيعة الأبدية للآخرة. هذا الإدراك يوفر دافعاً هائلاً للاستعداد للرحلة النهائية. * الدعاء: طلب المساعدة والتوجيه من الله باستمرار للتغلب على نقاط الضعف وللحصول على القوة للعمل بما هو معروف. الله هو المصدر الأسمى للقوة والنجاح. في الختام، الفجوة بين المعرفة والعمل هي تحدٍ عميق، ولكنها ليست مستعصية. إنها تتطلب التزاماً صادقاً بتقوية الإيمان، ومحاربة وساوس الشيطان وميول النفس الأمارة بالسوء، والتحرر من جاذبية الدنيا المفرطة، والحفاظ على يقظة دائمة لله والآخرة. يقدم القرآن الكريم كلاً من التشخيص والعلاج الإلهي لهذه الحالة، حاثاً إيانا على تحويل معرفتنا إلى واقع حي، فبالعمل الصالح تتحقق السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. كل خطوة نخطوها، مهما كانت صغيرة، بإخلاص، تقربنا أكثر من تجسيد المعرفة التي نمتلكها.
يُروى أن طبيباً ماهراً كان عالماً بأسرار الطب. كان يعرف علاج كل داء ودواء لكل مرض. ولكن ذات يوم، وجد نفسه مريضاً وقد استولى عليه الحمى والقشعريرة. فقال له تلاميذه: "يا أستاذ، أنت الذي أحطت بعلم الطب هذا الإحاطة، لماذا لا تعالج نفسك؟" فقال: "أيها الأعزاء، معرفة الطريق شيء، وسلوكها شيء آخر. فكم من أناس يحملون وصفة الشفاء في أيديهم، ولكنهم لا يمتلكون العزيمة لشرب الدواء. وهذا مثل حالنا؛ فبالرغم من معرفتنا بالخيرات، أحياناً تمنعنا نفوسنا عن العمل بها، ويصبح الكسل والغفلة حجاباً يحول دون الفعل."