الشك في عدل الله ينبع من منظورنا المحدود؛ فالله عادل مطلق، وحكمته وابتلاءاته في هذه الدنيا، التي هي دار اختبار، تفوق إدراكنا. سيتجلى العدل الكامل يوم القيامة، حيث لن يظلم أحد مثقال ذرة.
إن الشعور بالشك تجاه العدالة الإلهية، خاصة عند مواجهة الصعوبات والشدائد في الحياة، هو شعور إنساني وطبيعي ومفهوم. هذه الأسئلة ليست دليلًا على الكفر، بل يمكن أن تكون مدخلًا لتعميق الفهم لصفات الله وعظمة حكمته. يؤكد القرآن الكريم باستمرار على العدل الإلهي المطلق، ويرد على هذه الشكوك والترددات من منظور الإدراك البشري المحدود أمام عظمة الله التي لا حدود لها. أول نقطة يجب الانتباه إليها هي أن الله تعالى هو العدل المطلق. "العدل" هو أحد أسماء الله الحسنى. وعدله لا يقتصر فقط على الثواب والعقاب، بل يتجلى في كل ما خلقه ودبره في الكون. فالعالم بأسره قائم على أساس العدل، ولا يخرج عنه أي جزء. كل ما يحدث في الكون، حتى ما يبدو لنا غير عادل، له مكانة وحكمة في النظام الإلهي الواسع الذي يفوق إدراكنا المحدود. فنحن البشر ننظر إلى الأمور بمنظور محدود ومن خلال نافذة زماننا ومكاننا الخاصين، في حين أن الله يحيط بلوحة الوجود بأكملها، ويعلم عواقب ونتائج كل أمر عبر الزمان وفي أبعاد مختلفة. هذا الاختلاف في نطاق الرؤية هو ما يجعلنا أحيانًا نشك في الحكمة والعدل الإلهيين. ومثل الطفل الذي لا يدرك قرارات والديه التي تصب في مصلحته فيظنها ظالمة، نحن أيضًا أحيانًا نجهل الحكمة الكامنة وراء معاناتنا ومشاكلنا. ينص القرآن الكريم بوضوح على أن هذه الدنيا هي دار امتحان واختبار. فحياتنا عبارة عن مجموعة من الاختبارات المصممة لنمونا وتطورنا وإدراك حقيقة إيماننا. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 155: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ." هذه الآية تبين بوضوح أن المشاكل والنواقص جزء لا يتجزأ من التصميم الإلهي للإنسان في هذه الدنيا. وهذه الاختبارات ليست لإلحاق الأذى، بل لتطهير الروح، وتمييز المؤمن عن غير المؤمن، ورفع الدرجات الإيمانية. فالمعاناة يمكن أن تكون كفارة للذنوب، وتقوي صبر الإنسان، وتجعله أقرب إلى الله. وقد مر العديد من العظماء والأنبياء بأشد الصعوبات في حياتهم، وهذه الصعوبات لم تكن بسبب الظلم، بل كانت نابعة من مكانتهم الرفيعة ومنزلتهم العالية عند الله. مسألة أخرى مهمة هي محدودية العلم والإدراك البشري مقارنة بالعلم الإلهي اللامتناهي. قصة موسى والخضر في سورة الكهف هي مثال بارز على هذا القيد. فموسى عليه السلام، الذي كان نبيًا عظيمًا، استغرب ظاهريًا من أفعال الخضر عليه السلام واعتبرها غير عادلة: خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار دون أجر. ولكن بعد شرح الخضر، اتضح أن وراء كل فعل من هذه الأفعال حكمًا عميقة وخيرًا عظيمًا لم يكن موسى عليه السلام على علم بها في البداية. فقد كان خرق السفينة لإنقاذها من اغتصاب ملك ظالم، وقتل الغلام لمنع ضلال والديه المؤمنين واستبداله بولد أصلح، وبناء الجدار للحفاظ على كنز الأيتام. تعلمنا هذه القصة أن العديد من أحداث الحياة، التي تبدو شريرة أو غير عادلة ظاهريًا، تحتوي في باطنها على خير وحكمة لا يعلمها إلا الله. فنحن أحيانًا نرى جزءًا واحدًا فقط من اللغز ولا نستطيع فهم الصورة الكاملة. إن تجلي العدل الإلهي الكامل يكون في يوم القيامة. فهذه الدنيا هي دار عمل واختبار، وليست دار حساب كامل. فالحساب النهائي والثواب والعقاب الكاملان يتمان في الدار الآخرة. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ." (الأنبياء، الآية 47). تبين هذه الآية أنه في ذلك اليوم، سيُحاسب على أدنى عمل خير أو شر، حتى لو كان بوزن حبة خردل، ولن يُظلم أحد أدنى ظلم. ستقام العدالة الكاملة هناك، وسيرى كل شخص نتائج أعماله. فالمظلومون في الدنيا سيأخذون حقوقهم، والظالمون سيلاقون جزاء أعمالهم. هذا الوعد الإلهي يبعث الطمأنينة في القلوب التي تعاني من الظلم في الدنيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن جزءًا مما نسميه "الظلم" قد يكون نتيجة لأفعال واختيارات البشر أنفسهم أو المجتمع. فقد منح الله الإنسان الإرادة والاختيار، ونتيجة الاختيارات الخاطئة قد تبدو غير عادلة ظاهريًا. ولكن هذا أيضًا جزء من الحكمة الإلهية في أن يكون الإنسان مسؤولًا عن أفعاله. ورغم أن كل شيء في النهاية يقع تحت إرادة الله وعلمه، إلا أنه منح الإنسان مساحة للاختيار. للتخلص من الشك والتردد، من الضروري أن نعمق فهمنا لله والكون، ونتأمل في آيات القرآن، ونلجأ إلى الدعاء والصبر. التركيز على شكر النعم الموجودة وفهم أن الابتلاءات يمكن أن تكون نعمًا خفية يساعد كثيرًا على تحقيق السلام الداخلي وتقوية الإيمان. في النهاية، بالتوكل على حكمة الله وعدله اللامتناهي، يمكننا تطهير قلوبنا من الشكوك والتسليم لإرادته، فهو عليم قدير على كل شيء ولا يظلم عباده أبدًا.
يُحكى أن في قديم الزمان، كان هناك مزارع يزرع أرضه بجد وإخلاص لسنوات، لكن الجفاف المتواصل كان يدمر محصوله، ويدفعه إلى الفقر. نظر المزارع بقلب مكسور وعينين دامعتين إلى السماء وقال في نفسه: "يا ربي! أبذل كل هذا الجهد، فأين عدلك؟" ذات ليلة، رأى في المنام أن ملكًا قال له: "يا عبد الله! أنت لا ترى سوى البذرة التي تزرعها تحت التراب ولا تثمر، لكن الحكمة الإلهية أوسع من ذلك. أنت لا تعلم أن هذا الجفاف يدرأ بلاءً عن أراضي الجيران ويمتحنك في صبرك وتوكلك. تذكر أن وراء كل شدة حكمة كامنة، ستظهر عاجلاً أم آجلاً لأهل الصبر." استيقظ المزارع بقلب أكثر هدوءًا، وواصل عمله وتوكله، وما لبث أن هطلت أمطار الرحمة الإلهية، فأحيت أرضه ودلته على الحكمة الإلهية الخفية.