يعود الشعور بحضور الله في الشدائد إلى الطبيعة البشرية التي تلجأ إلى الله في الضيق، وتعمل الشدائد كجرس إنذار لتذكيرنا بالاعتماد المطلق على قدرته. الهدف الحقيقي هو الحفاظ على هذا الوعي في جميع الأحوال، سواء في الرخاء أو الشدة، من خلال الذكر والشكر المستمرين.
هذا السؤال عميق وشائع جدًا، وتعود جذوره إلى الطبيعة الوجودية للإنسان والحكمة الإلهية. كثيرون منا يشتركون في تجربة مشابهة، حيث نجد أنفسنا في خضم المشاكل والشدائد، وكأن بابًا ينفتح نحو معنى أكبر، ونشعر بحضور الله أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. في المقابل، قد يتلاشى هذا الشعور في أوقات الرخاء واليسر، بل قد يُنسى تمامًا. القرآن الكريم يصف هذه الظاهرة بجمال ويشرح أسبابها. أحد الأسباب الرئيسية لهذه المسألة هو طبيعة "الاختبار" و"الابتلاء" في الحياة البشرية. يؤكد الله تعالى في القرآن مرارًا أن الدنيا دار ابتلاء، وأن البشر يختبرون على مدار حياتهم بأنواع الشدائد والرخاء. في سورة العنكبوت الآية 2-3 يقول تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون؟ ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). هذه الآيات توضح بجلاء أن الابتلاء جزء لا يتجزأ من الإيمان. وفي سورة البقرة الآية 155 جاء: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين). هذه الشدائد ليست لتأذيتنا، بل لقياس عمق الإيمان، وتربية الروح، وتقريب العبد من خالقه. والسبب الآخر يتعلق بـ "الطبيعة البشرية". يصف القرآن الكريم بوضوح هذه النزعة الإنسانية إلى الغفلة في أوقات النعمة والرخاء، فيقل ذكر الله، ولكن في الشدائد يتشبث به ويتضرع إليه. في سورة فصلت الآية 51 نقرأ: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ" (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض). هذه الآية تبين بوضوح كيف يغفل الإنسان عن ذكر الله في الرخاء، ولكنه في شدة البلاء والحاجة يعود إليه بكل كيانه. وفي سورة يونس الآية 12 جاء أيضًا: "وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون). هذه الآيات تقدم صورة واقعية لضعف الإنسان ونسيانه. في الشدائد، يرى الإنسان نفسه ضعيفًا وعاجزًا، ويجد جميع المتعلقات الدنيوية عديمة الجدوى. عند هذه النقطة، يشعر بوضوح بملجئه الوحيد، وهو الله. هذا الشعور ليس بسبب غياب الله في الأوقات الجيدة، بل بسبب غفلة الإنسان وانشغاله بمتع الدنيا في تلك الفترة. تعمل الشدائد بمثابة "جرس إنذار". عندما تسير الحياة على ما يرام، قد نعتز بقدراتنا وثرواتنا وعلاقاتنا، ونعتمد عليها بدلاً من الاعتماد على الله. ولكن عندما نواجه مشكلة لا نجد لها حلاً بشريًا، تنهار جميع اعتماداتنا، ونضطر حتمًا إلى مد يد الحاجة إلى القدرة الإلهية المطلقة. هذه التجربة تعزز فينا الشعور بالتواضع والاعتماد المطلق على الخالق، وهنا نلمس حضوره بكل كياننا. وهذا التواضع والاعتراف بالضعف هو بحد ذاته مقدمة لفهم أعمق للحضور الإلهي. علاوة على ذلك، يصبح "الذكر" و"ذكر الله" أكثر وضوحًا وبروزًا في أوقات الشدة. في الأوقات الجيدة، قد تكون صلواتنا سريعة، ودعواتنا سطحية، وتلاوة القرآن مؤجلة. ولكن في البلاء، تنكسر القلوب، ونحتاج إلى الطمأنينة والإرشاد، ونتوجه بكل كياننا نحو "ذكر الله". الذكر هو بوابة فهم الحضور. عندما ننطق اسم الله بكل وجودنا، وندعوه، ونلجأ إليه، نشعر بأنه يسمعنا وحاضر. يقول تعالى في سورة الرعد الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذا الهدوء في خضم الشدة هو نتيجة الحضور والذكر. لذا، ليس الأمر أن الله حاضر فقط في الشدائد؛ بل هو حاضر وناظر دائمًا. ما يتغير هو "حساسيتنا" و"انتباهنا" لحضوره. في الشدائد، تُرفع ستائر الغفلة، ونكتسب القدرة على فهم أعمق لوجوده. ولكي نتمكن من الشعور بهذا الحضور في الرخاء أيضًا، يجب علينا: 1. الذكر المستمر: الحفاظ على ذكر الله في جميع لحظات الحياة، سواء في الصلاة والدعاء أو في الأنشطة اليومية. 2. الشكر (الشكر): أن نكون شاكرين للنعم حتى لا تتغلب علينا الغفلة. الشكر يجعلنا ندرك مصدر النعم. 3. التفكر والتدبر: التفكر في آيات الله في القرآن وفي الخلق، لندرك عظمة الله وحضوره. 4. علاقة فعالة: لا ننتظر الشدائد لتقودنا نحو الله؛ بل نتوجه إليه بأنفسنا بنشاط ونقيم علاقة معه. 5. قبول الحكمة الإلهية: نعلم أن كل شيء، سواء كان شدة أو سهولة، هو منه وفيه حكمة. في الختام، إن الإحساس بحضور الله في الشدائد نعمة تعيدنا إليه. ولكن الهدف الأسمى هو الوصول إلى مرحلة من الإيمان والمعرفة نشعر فيها بحضوره بكل كياننا في كل حال وزمان، سواء في الرخاء أو الشدة، ونعلم أنفسنا دائمًا في حضرته. هذا بحد ذاته علامة على النمو الروحي والقرب الإلهي.
سمعت عن تاجر ثري كان مغرورًا بماله ومكانته، وفي أوقات الرخاء، غفل عن ذكر الله. لم يؤدِ صلاةً ولم يسعد قلب فقير. شاء القدر أن تُحاصر سفينته في بحر هائج، وذهب كل ما يملك أدراج الرياح. التاجر المسكين، وحيدًا وسط الأمواج الهادرة، ولما رأى أنه لا قوة تنفع سوى القدرة الإلهية، تضرع إلى خالقه بقلب منكسر وعينين دامعتين، وتعهد بأنه إذا نجا، فلن يغفل عن ذكره لحظة واحدة بعد الآن. عندما وصل إلى الشاطئ سالمًا ونجت روحه، أصبح من بعد ذلك عبدًا شاكرًا ورعًا، وأدرك أن حضور الحق كان معه ليس فقط في الرخاء، بل في ذروة البلاء أيضًا، وأن هذا البلاء قد رفع حجاب غفلته. وهكذا يقال: "الشدائد مرايا تتجلى فيها صورة الحبيب بوضوح أكبر."