رغبة الإنسان في الابتعاد عن صخب الحياة شعور طبيعي، ينشأ من ضغوط الدنيا أو الحاجة للسكينة الداخلية. القرآن يقدم ذكر الله، الصبر، والصلاة كحلول أساسية لتهدئة القلوب، والعودة إلى الحياة بروح متجددة.
إن الشعور بالحاجة إلى الابتعاد عن صخب الحياة، وعن كل همومها وضغوطها اليومية، هو شعور إنساني وطبيعي تمامًا، يختبره الكثير منا. هذه الرغبة في العزلة والانفراد، ليست دليلاً على ضعف، بل قد تكون أحيانًا جرس إنذار من أرواحنا بأننا بحاجة إلى إعادة تقييم، وهدوء، واتصال أعمق مع ذواتنا ومع خالقنا. القرآن الكريم، ببصيرته العميقة في فطرة الإنسان، لا يشير بشكل مباشر إلى هذا الشعور بـ «الابتعاد»، ولكنه يتناول جذوره، أي الإرهاق الروحي، والضغوط الدنيوية، والحاجة إلى السلام الداخلي، ويقدم الحلول الإلهية لتجاوز هذه الحالات. أحد أهم الأسباب التي تدفع الإنسان أحيانًا إلى الرغبة في الانعزال عن كل شيء، هو الانغماس في شؤون الدنيا وضغوطها المتواصلة. الحياة الدنيا، بكل جاذبيتها وتحدياتها، يمكن أن ترهق الروح والجسد. هذا الشعور بالضجر قد ينشأ من الحمل الثقيل للتوقعات، والمنافسات التي لا تتوقف، والسعي المادي الذي لا نهاية له لكسب الثروة والمكانة، وحتى التعرض لكم هائل من الأخبار والمعلومات السلبية في البيئة المحيطة. يصف القرآن في سورة الحديد، الآية 20، صورة معبرة عن طبيعة الدنيا: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ». تعلمنا هذه الآية أن الحياة الدنيا ليست إلا لهواً و لعباً وزينة وتفاخراً بينكم وتكاثراً في الأموال والأولاد. هذا البيان القرآني الصريح يساعدنا على فهم لماذا نشعر أحيانًا بالفراغ والتعب في هذا السباق الدنيوي الذي لا ينتهي، ونتوق إلى الهروب من هذا الدوامة والوصول إلى شاطئ السكينة. عندما ينغمس الإنسان في هذه الدائرة المستمرة من الرغبات والمنافسات، قد يغفل عن الغرض الأساسي لخلقه، وهذا الغفلة تؤدي تدريجياً إلى الإرهاق الروحي والرغبة في الانسحاب من كل شيء. سبب آخر هو الحاجة الفطرية للإنسان إلى السكينة والاتصال بمصدر الوجود. في زحمة الحياة، قد يضعف اتصالنا بالله، وهذا التباعد يؤدي تلقائياً إلى القلق والشوق. قلب الإنسان بفطرته يبحث عن السكينة المطلقة، وهذه السكينة لا توجد إلا في ذكر الله. يقول الله تعالى في سورة الرعد، الآية 28: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). عندما نشعر بالحاجة إلى الابتعاد، قد يكون قلبنا في الواقع يصرخ للعودة إلى المصدر الأساسي للسكينة، وهو ذكر الله. هذا الابتعاد هو في الأساس دعوة داخلية للانفراد مع الذات وإعادة بناء الرابط الروحي مع الخالق. ربما تكون هذه الحاجة إلى العزلة فرصة للتأمل والتفكر، الذي دعا إليه القرآن مراراً؛ تأمل في آيات الله، في الخلق، في المصير، وفي الهدف الحقيقي للحياة. هذا النوع من الابتعاد، هو شكل من أشكال الخلوة الروحية التي يمكننا فيها التحرر من الضوضاء الخارجية المزعجة والاستماع إلى صوتنا الداخلي والإلهامات الإلهية. وقد كان الكثير من الأئمة والأولياء يلجأون إلى العزلة والخلوة (كالاعتكاف) لتعميق صلتهم بربهم والتخلص من حجاب النفس. يقدم القرآن الكريم حلولاً عملية وعميقة لمواجهة هذه المشاعر الثقيلة والعودة إلى السكينة. من أهمها الاستعانة بالصبر والصلاة. في سورة البقرة، الآية 153، نقرأ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين). الصبر يمنحنا القدرة على مقاومة المشاكل وعدم الاستسلام لليأس. فالصبر يعني تحمل الشدائد، والتحكم في النفس، والثبات على الحق. هذا الصبر يساعد الإنسان على مقاومة ضغوط الحياة دون أن ينكسر داخلياً. والصلاة، بوصفها عمود الدين ومعراج المؤمن، هي فرصة لا تقدر بثمن لإقامة اتصال مباشر وغير وسيط مع الله. الصلوات الخمس اليومية هي بحد ذاتها فرص لـ «الابتعاد» القصير والذو معنى عن العالم الصاخب؛ لحظات نترك فيها أي ارتباط دنيوي ونتوجه بكليتنا نحو ربنا. هذه اللحظات، بمثابة نفس عميق للروح يمنحنا الطاقة والسكينة اللازمة لمواصلة مسيرة الحياة. خلال هذه الأوقات، يمكن للمرء أن يتجه بقلبه وعقله إلى خالقه، ويعرض مشاكله، ويطلب العون، ويستفيد من رحمة الله الواسعة. هذا الاتصال الروحي هو ملاذ آمن ضد عواصف الحياة. بالإضافة إلى الصبر والصلاة، فإن التوكل على الله يلعب دوراً أساسياً في تقليل القلق والضغوط النفسية. عندما يوكل الإنسان أموره إلى الله ويثق بحكمته وتدبيره، يرفع عنه عبء ثقيل ويشعر بالخفة والسكينة. هذا التوكل، يسمح للإنسان بالابتعاد إلى حد ما عن سباق الدنيا اللامتناهي وهمومها غير الضرورية، ويصل إلى قناعة بأن التدبير الإلهي يحيط بكل شيء وأن الله هو خير المدبرين. فهم أن هذه الدنيا فانية ومقصدنا النهائي هو الآخرة، يمكن أن يخفف من العبء الثقيل للتعلقات ويمنح الإنسان راحة البال. هذا المنظور القرآني يساعدنا على تقبل تحديات الحياة بنظرة أوسع وقلب أكثر اطمئناناً، لأننا نعلم أن بعد كل عسر يسراً، وأن الله تعالى دائمًا مع عباده الصابرين والمتوكلين. لذلك، فإن هذا الشعور بأننا أحيانًا نرغب في الابتعاد عن كل شيء، ليس مجرد حالة سلبية، بل يمكن أن يكون فرصة إلهية للتزكية والنمو الروحي. إنها دعوة للعودة إلى ذواتنا الحقيقية والعثور على السكينة في كنف ذكر الله والتمسك بالتعاليم الدينية. القرآن يعلمنا كيف نحول هذا «الابتعاد» المؤقت إلى خلوة للنمو وتجديد القوى، لنعود إلى الحياة بروح متجددة وقلب أكثر اطمئناناً، ونواجه تحدياتها ببصيرة أعمق وسكينة دائمة. هذا الشعور في النهاية يقودنا نحو إعادة تقييم نمط حياتنا، وتقليل الاعتماد على الأمور المادية، وزيادة الاهتمام بالجوانب الروحية لوجودنا، وفي ظله، ستحل السكينة والطمأنينة الحقيقية محل القلق والاضطراب. هذا السير والسلوك الروحي، هو المسار الذي يوضحه القرآن لتحقيق السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، ويعلمنا كيف نكون حاضرين بفعالية في الدنيا بينما نحمل قلباً هادئاً متصلاً باللامتناهي.
يُروى أن ملكًا ثريًا وذي جاه وجلال، كان دائم الاضطراب والهم. في أحد الأيام، مرّ بفقير درويش كان يجلس في زاوية خربة بقلب مطمئن ووجه مبتسم، منهمكًا في الصلاة دون أي هموم. سأله الملك بدهشة: «يا درويش، ما الذي حل بك حتى أصبحت بهذه الراحة والطمأنينة؟ بينما أنا، بكل ما أملك من ثراء وقوة، لا أهنأ بلحظة من السكينة.» ابتسم الدرويش وقال: «يا أيها الملك! سعادة الأثرياء ممزوجة بالحزن، وحزن الدراويش ممزوج بالبهجة. أنت متعلق بالدنيا وتتوقع منها الراحة، بينما الراحة الحقيقية تكمن في التجرد والقناعة. كلما قلت ارتباطاتك، زادت راحتك.» تفكر الملك وأدرك أن الراحة الحقيقية تأتي من التخلي عن التعلقات وإيجاد القناعة الداخلية، وليس من تكديس الثروة والقوة.