قد ينبع عدم الشعور بالراحة أحيانًا رغم العبادة من نقص الخشوع والإخلاص، أو تأثير الذنوب، أو التوقعات الخاطئة من العبادة. إن طمأنينة القلب الحقيقية تكمن في ذكر الله الدائم والخالص، كما يقول القرآن: "أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ".
سؤالكم عن سبب عدم الشعور بالراحة أحيانًا، رغم الاستمرار في الصلاة والعبادة، هو سؤال عميق وشائع يواجهه العديد من المؤمنين. هذا الشعور، بعيدًا عن كونه علامة على ضعف الإيمان، يمكن أن يكون في الواقع نقطة انطلاق للتأمل الأعمق في جودة اتصالنا بالله وفهم أعمق لفلسفة العبادة. يعلمنا القرآن الكريم أن العبادة تتجاوز مجرد أداء الطقوس الظاهرية؛ بل هي رحلة نحو الارتقاء الروحي والسلام الداخلي. تكمن إجابة هذا السؤال في طبقات مختلفة من فهم الدين والنفس البشرية، والتي يمكن استكشافها بالاعتماد على تعاليم القرآن الكريم. أحد المفاهيم المحورية في هذا الصدد هو مفهوم "الخشوع" و"الإخلاص". يقول الله تعالى في سورة المؤمنون، الآيتين 1-2: "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ" (قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون). الخشوع يعني حضور القلب، والتواضع أمام عظمة الله، والتركيز الكامل أثناء العبادة. إذا كانت صلاتنا مجرد حركات ميكانيكية، وكان عقلنا وقلبنا مشغولين بأمور الدنيا أو تشتت الذهن، فمن الطبيعي أن لا يتحقق التأثير العميق والمريح المتوقع من العبادة. في الحقيقة، الصلاة عماد الدين، ولكنها عماد يُبنى بالحضور والوعي. عندما نصلي، نحن نناجي رب العالمين؛ فهل يمكن للمرء أن يتوقع الشعور بالراحة وهو في حضرة هذه القوة، ومع ذلك يشغل قلبه بأمور أخرى؟ أما الإخلاص فيعني تجريد النية لله وحده، كما نقرأ في سورة البينة، الآية 5: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ" (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة). أحيانًا، حتى دون أن ندرك ذلك، تختلط عباداتنا بدوافع غير إلهية؛ على سبيل المثال، لحل مشكلة معينة، أو لكسب رضا الآخرين. في مثل هذه الظروف، لن تتحقق السعادة الحقيقية بالاتصال بالله، والتي هي مصدر السلام. عامل آخر يمكن أن يؤثر على حالتنا الروحية أثناء العبادة وبعدها هو الذنوب والتقصير في جوانب أخرى من الحياة. قلب الإنسان كالمرآة التي تتكدّر بالذنوب. كما نقرأ في سورة المطففين، الآية 14: "كَلَّا بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). هذه الرانات تمنع الإدراك الصحيح للنور الإلهي والتأثير العميق للعبادات. الحياة المتوازنة في الإسلام لا تقتصر على الصلاة والصيام فقط؛ بل تشمل أيضًا مراعاة حقوق الآخرين، والابتعاد عن الظلم، والصدق، والأمانة، وخدمة الخلق. إذا كان الفرد مجتهدًا في عباداته الفردية، ولكنه يعاني من مشاكل في علاقاته الاجتماعية أو أخلاقه، فإن هذا الخلل يمكن أن يؤثر على جودة سلامه الروحي. الشعور بالذنب، أو الندم، أو حتى تجاهل بعض الأوامر الإلهية، يمكن أن يثقل القلب ويمنعه من الشعور بالخفة والرضا بعد العبادة. علاوة على ذلك، يجب الانتباه إلى أن العبادة في الإسلام ليست وسيلة لحل جميع المشاكل الدنيوية فورًا وكاملاً. فبينما الصلاة والذكر يجلبان الراحة، فإن الله قد مزج الحياة الدنيا بالاختبارات والتحديات. ففي سورة البقرة، الآية 155، يقول سبحانه: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين). أحيانًا، يكون الشعور بعدم الراحة جزءًا من هذه الاختبارات الإلهية لقياس صبرنا ولإدراك أن السلام الحقيقي لا يكمن في غياب المشاكل، بل في وجود سلام القلب والتوكل على الله. العبادة في هذه الظروف ليست لإزالة المشكلة، بل لاكتساب القوة والصبر في مواجهة الصعاب. أي أنه حتى لو لم تكن حالتنا جيدة، فإن العبادة تمنحنا القدرة على التحمل والأمل، بدلاً من إزالة هذا الشعور غير المريح على الفور بالضرورة. أحيانًا تكون توقعاتنا من العبادة أكثر مما تقتضيه فلسفتها. العبادة هي وسيلة للاتصال بمصدر السلام، ولكن هذا السلام لا يعني الخلو المطلق من الهموم في هذه الدنيا. نقطة حاسمة أخرى هي الفهم الصحيح لـ "الذكر" و "ذكر الله". يذكر القرآن صراحة في سورة الرعد، الآية 28: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية هي المفتاح الرئيسي لإجابتكم. إذا لم نشعر بالسلام رغم الصلاة، فربما يرجع ذلك إلى أن "ذكر الله" ليس ساريًا في قلوبنا، أو أنه غير مفهوم بالشكل الصحيح. الذكر ليس مجرد تكرار الكلمات؛ بل هو تذكير دائم بعظمة الله وقدرته ورحمته وحضوره في جميع لحظات الحياة. عندما نصلي، إذا كنا نتذكر الله حقًا، ونقترب منه ونشعر بوجوده، فسيجد قلبنا الطمأنينة. إذا كان هذا التذكير المستمر غائبًا على مدار اليوم، وحتى في الصلاة، فمن الطبيعي أن نشعر بتأثيره بشكل أقل. السلام الداخلي هو حالة داخلية تنبع من اتصال عميق بالخالق، وليس مجرد أداء الشكليات الدينية. أخيرًا، من المهم أن ننتبه إلى جانب "الاستمرارية والمثابرة" في العبادات والتزكية الذاتية. النمو الروحي، مثل النمو الجسدي، يتطلب وقتًا وصبرًا ومداومة. قد نشعر في مراحل معينة من الحياة، لأسباب مختلفة نفسية أو جسدية أو بيئية، بالثقل أو عدم الاستفادة الكافية من العبادات. هنا يبرز دور الإيمان والتوكل. يجب ألا نيأس من هذا الشعور؛ بل يجب أن نسعى من خلال التفكير والتحليل الأعمق، للبحث عن جذور هذه الحالة ونحاول تقوية هذا الاتصال بزيادة الإخلاص وحضور القلب، والتوبة من الذنوب، وتحسين نمط الحياة الإسلامي بشكل عام. أحيانًا، يكون هذا الشعور بعدم الراحة هو بحد ذاته تنبيه من الله لنا، لنصل إلى مستوى أعمق في عباداتنا ونتقدم من حالة العادة وإسقاط الواجب، نحو الحب والمعرفة. العبادة للمؤمن هي ملجأ في وجه عواصف الحياة ومصدر للأمل والسلام لا ينضب أبدًا، بشرط أن نتوجه إليها بقلب واعٍ ونية خالصه. قد يكون هذا الشعور مرحلة من مراحل النمو الروحي التي تدفع الإنسان إلى التفكير الأعمق والتزكية الذاتية الأكثر. لذلك، لا ينبغي اليأس منه، بل يجب اعتباره فرصة للمراجعة الداخلية وتصحيح المسار.
ذات يوم، كان شيخ يمر بحي فرأى رجلاً يؤدي الصلاة بحماسة شديدة، وصوت دعائه مرتفع. ففكر الشيخ في نفسه: 'ما أشد عبادة هذا الرجل!' ولكن بعد الصلاة، رأى الرجل، بوجه عابس وقلق، يسرع للاهتمام بأمور دنياه، ولم يكن يتردد في التلفظ بكلمات غير لائقة. اقترب منه الشيخ وقال: 'يا رجل! هذه الصلاة التي أدّيتها لم تبنِ جدران بيت قلبك؛ بل زينت جدران المسجد فحسب. سلام القلب يكمن في حضوره، لا مجرد حضور الجسد. قصتك كقصة بائع الزهور الذي يعطي عبير الزهور للناس، لكنه هو نفسه غافل عن رائحتها.' تأثر الرجل بشدة وسعى منذ ذلك الحين ليصلي بقلب حاضر ونية خالصة، ووجد أن حياته امتلأت بالسكينة والبركة.