الشعور بالجفاف في العبادة ينبع من فقدان الخشوع، ونقص الذكر، وإهمال الإخلاص. للتغلب على ذلك، يجب تنمية حضور القلب، فهم حكمة العبادة، وتصفية النوايا، لتحويل الواجب إلى صلة محبة.
إن الشعور بأن العبادة قد تحولت إلى واجب جاف وعديم الروح هو تجربة يواجهها العديد من المؤمنين في مراحل مختلفة من حياتهم. يمكن أن تنبع هذه الحالة من مجموعة متنوعة من العوامل الروحية والنفسية التي تُشير إليها التعاليم القرآنية بشكل غير مباشر. لا يصور القرآن الكريم العبادة على أنها مجرد سلسلة من الحركات أو الأقوال، بل يعتبرها صلة عميقة، قلبية وواعية مع خالق الكون. إن الأهداف الأساسية للعبادة هي القرب الإلهي، والسكينة الروحية، وتذكير بالحقيقة الوجودية للإنسان، والشكر على النعم الإلهية التي لا تحصى. عندما تُغفل هذه الأهداف السامية، وتتحول العبادة إلى مجرد عادة أو إبراء ذمة، يظهر ذلك الشعور بالجفاف وانعدام الروح. أحد أهم الأسباب التي تجعل العبادة قد تشعر بالجفاف هو فقدان «الخشوع». الخشوع هو حالة من التواضع والتركيز القلبي والحضور الذهني أمام عظمة الله. في سورة المؤمنون، الآية 2، يقول القرآن الكريم: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ» أي: «قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون». تُشير هذه الآية إلى أن فلاح ونجاح المؤمنين مرتبط بالخشوع في الصلاة. إذا كان القلب غائبًا في الصلاة، والعقل منشغلًا بالأفكار الدنيوية، واللسان يكرر الكلمات فحسب، فإن الصلاة تتحول إلى عمل ميكانيكي لا يترك أي تأثير روحي ومعنوي عميق على الفرد. يتطلب الخشوع التدريب والتأمل في معاني الآيات والأذكار، والتذكير الدائم بعظمة الله. سبب آخر هو نقص «الذكر» أو ذكر الله في جميع شؤون الحياة. يؤكد القرآن الكريم بشدة على أهمية ذكر الله. في سورة الرعد، الآية 28، يقول تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» أي: «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ۗ ألا بذكر الله تطمئن القلوب». عندما تخلو الحياة اليومية من ذكر الله، وينغمس الفرد في الأمور المادية والهموم الدنيوية، فمن الطبيعي أنه في لحظات العبادة لن يتمكن فجأة من الخروج من هذا النمط والتوجه بكامله إلى الله. يجب أن يكون ذكر الله جاريًا في جميع لحظات الحياة لتتحول العبادة من واجب دوري إلى تيار مستمر من الاتصال والحضور. الذكر ليس مجرد نطق الكلمات، بل يشمل أيضًا الحضور القلبي والتأمل في النعم والآيات الإلهية. بالإضافة إلى ذلك، فإن «الإخلاص» والنية الصادقة عاملان حيويان في إضفاء الحياة على العبادة. في سورة البينة، الآية 5، نقرأ: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» أي: «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة». إذا أُديت العبادة لكسب رضا الناس، أو اكتساب سمعة، أو لمجرد إبراء ذمة، فإنها تفقد جوهر الإخلاص. الإخلاص يعني أداء العمل لله وحده وبقصد التقرب إليه. عندما يسعى الإنسان فقط لرضا الله، تكتسب العبادة معنى وحلاوة تلقائيًا، لأنه يسعى وراء هدف سامٍ يتجاوز أي منفعة دنيوية. هذا الإخلاص يعيد الشغف والحماس إلى العبادة ويخرجها من حالتها الجافة وعديمة الروح. علاوة على ذلك، فإن عدم فهم فلسفة وحكمة العبادة يمكن أن يسهم أيضًا في هذا الشعور بالجفاف. يشير القرآن الكريم مرارًا إلى حكم العبادات. على سبيل المثال، وُصفت الصلاة بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ» (العنكبوت: 45). إذا عرف الفرد كيف أن كل ركعة صلاة، وكل ذكر، وكل دعاء، وكل عمل عبادي، ينقي روحه، ويقربه إلى الله، ويؤدي في النهاية إلى سعادته في الدنيا والآخرة، فسيتغير نظرته للعبادة. هذا الفهم العميق يقوي الدافع ويحول العبادة من عبء ثقيل إلى فرصة ثمينة للنمو الروحي. وتلاوة القرآن بالتدبر والتفكير في معانيه، وسيلة فعالة لإيقاظ القلب وتقوية الرابط الروحي. باختصار، للتخلص من شعور الجفاف في العبادة، يجب علينا أن نرجع إلى داخل أنفسنا ونحول علاقتنا بالله من علاقة واجبة إلى علاقة محبة وواعية. هذا يتطلب ممارسة الخشوع، وزيادة الذكر الإلهي في جميع لحظات الحياة، والإخلاص في النية، والتعمق في حكمة وفلسفة العبادات. يجب أن تنبع العبادة من أعماق القلب، وليس فقط من العادة أو الإلزام. وكلما كانت هذه العلاقة أعمق وأكثر وعيًا، وجدنا حلاوة وطمأنينة أكبر في العبادة، وسيختفي شعور الجفاف. هذه الرحلة الروحية تتطلب الصبر، والاستمرارية، وطلب العون من الله. عندما تكون العبادة من صميم القلب، لا تكون مجرد واجب، بل تجلب أقصى درجات السعادة والسكينة، وتوصل الإنسان إلى نبع الحياة والمعنى.
يُروى أن الشيخ أبا الحسن الخرقاني كان جالسًا ذات يوم مع تلاميذه، وكان الحديث يدور حول حال القلب وأحوال العبادة. فسأل أحد المريدين: «يا شيخ، أحيانًا أصلي ولا أجد فيها حلاوة، وكأنني فقط أؤدي واجبًا.» فابتسم الشيخ وقال: «عندي حكاية عن سعدي الشيرازي، الذي كان يتجول ذات يوم في بستان. فرأى شاعرًا يقرأ شعرًا وحاله قد تغير، والدموع تسيل من عينيه. فسأله سعدي: 'ماذا أصابك؟' فقال: 'سمعت هذا الشعر من شاعر آخر، ومعناه استقر في قلبي لدرجة أنه أفقدني وعيي.' فقال سعدي: 'إذا قيل نفس الشعر لشخص آخر، فقد لا يترك أي أثر.'» ثم قال الشيخ الخرقاني: «يا مريد، الكلام واحد ولكن القلوب مختلفة. إذا لم تجد حلاوة في عبادتك، فانظر هل قلبك حاضر؟ هل أنت على دراية بمعنى ما تقوله؟ هل نيتك خالصة؟ العبادة كالماء الذي تسكبه على صحراء قاحلة؛ إذا لم يكن قلبك عطشانًا وتربة قلبك غير قابلة للاستقبال، فمهما سكبت من الماء، سيبقى على الأرض ولن يصبح إلا طينًا. هيئ قلبك، وحينئذ سترى كيف تستقر كل قطرة من ذلك الماء الحيوي في كيانك وتُزهر. الحلاوة في حضور القلب، لا في عدد الركعات.» فأخذ المريد من هذا الكلام عبرة وتغير حاله.