ينشأ الغرور الروحي من إغفال الفضل الإلهي والشعور بالتفوق بسبب العبادات، وهو آفة عظيمة للإيمان يمكن أن تحيد المرء عن الصراط المستقيم. تتطلب مواجهته التواضع والشكر والتركيز على الفقر الذاتي أمام الله.
الغرور الروحي، الذي يُعرف أيضًا بالعجب أو الكبر أو الشعور بالتفوق الذاتي، هو أحد المخاطر الخفية والكبيرة في مسار النمو الروحي الذي يمكن أن يصيب حتى المؤمنين الصالحين والأخيار. هذه الظاهرة هي حالة يشعر فيها الفرد بالتفوق والاكتفاء الذاتي على الآخرين بسبب أداء العبادات، أو امتلاك المعرفة الدينية، أو حيازة مكانة روحية معينة. هذا الشعور يصبح عقبة كبيرة في التقرب إلى الله وإقامة علاقة صحيحة مع خلقه. القرآن الكريم يشير بوضوح وتلميح مرارًا وتكرارًا إلى هذه الآفة، موضحًا جذورها وعواقبها. يكمن الجذر الأساسي للغرور في جهل الإنسان بحقيقته الوجودية، وكذلك في غفلته عن عظمة الله وفضله اللامحدود. ينسى الإنسان أن كل ما يملكه، بما في ذلك التوفيق في العبادة وفهم الدين، هو كله من فضل الله ورحمته، وليس من استحقاقه وقدرته الذاتية. عندما يتم تجاهل هذا الفضل الإلهي، تبدأ نفس الإنسان في ادعاء ملكية هذه الفضائل، وهنا ينشأ الغرور الروحي. أول وأبرز مثال على الغرور والاستكبار في القرآن الكريم هو قصة إبليس. إبليس، الذي كان كائنًا عابدًا وذا مكانة عالية، عندما أمره الله أن يسجد لآدم، عصى تكبرًا وشعورًا بالتفوق الذاتي. لقد رأى نفسه أفضل من آدم، لأنه اعتقد أنه خُلق من نار وآدم من طين. هذه القصة مذكورة في عدة مواضع من القرآن، منها سورة الأعراف الآية 12 وسورة ص الآيتان 75-76، وتقدم درسًا عظيمًا للبشر بأن حتى العبادة الطويلة والمكانة العالية لا يمكن أن تكون ضمانة ضد الوقوع في فخ الغرور، إذا لم يكن هناك معرفة حقيقية وتواضع داخلي. هذا الغرور الذي أصاب إبليس لم يطرده من رحمة الله فحسب، بل دفعه إلى العداوة الصريحة للإنسان، وأصبح هدفه هو إضلال البشر. هذا المثال يوضح كيف يمكن للغرور أن يقود كائنًا صالحًا من داخله نحو التمرد والعصيان. يشير القرآن الكريم أيضًا بكلمات مثل "أشر"، "بطر"، "فرح"، "خول"، و"مرح" إلى أنواع مختلفة من الغرور والتكبر. ففي سورة لقمان الآية 18 يقول تعالى: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"؛ أي "ولا تُعْرِضْ بوجهك تكبُّرًا على الناس، ولا تمشَ في الأرض متبخترًا مفتخرًا بما عندك، إن الله لا يحب كل متكبر فخور بنفسه أو بماله أو بجاهه". هذه الآية توضح بجلاء أن التكبر والتفاخر في السلوك والأخلاق مذمومان عند الله، والغرور الروحي ليس استثناءً من هذه القاعدة. كما أن في سورة غافر الآية 35، يذم الله أولئك الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة، ويقول: "كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ"؛ أي "هكذا يختم الله على قلب كل متكبر جبار". هذه الآية تحذير خطير بأن الغرور يمكن أن يجعل قلب الإنسان قاسيًا ورافضًا للحق، ويمنعه من إدراك الحقائق الإلهية. وهذا الختم على القلب هو نتيجة لأعمال الإنسان نفسه الذي حرم نفسه من فضل الله بسبب غروره وتكبره. إضافة إلى ذلك، فإن أحد الجذور الهامة للغرور الروحي هو "تزكية النفس" أو مدح الذات. في سورة النجم الآية 32 نقرأ: "فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ"؛ أي "فلا تمدحوا أنفسكم، ولا تصفوها بالتقوى والطهر، فالله أعلم بمن اتقاه حقًّا". هذه الآية تعلمنا بوضوح ألا نعتبر أنفسنا أطهارًا وخاليين من العيوب أو نتباهى بأعمالنا الصالحة. فالله وحده هو الذي يعلم خفايا النوايا والتقوى الحقيقية. عندما يعتمد المؤمن، بدلاً من التركيز على تقصيره واحتياجه لله، على أعماله الصالحة ويرى نفسه متفوقًا على الآخرين، فإنه يقع تدريجيًا في فخ الغرور الروحي. هذا الغرور يشوه نظرته لنفسه، وللآخرين، وحتى لله. قد يحتقر الآخرين، ويحكم عليهم بسبب أخطائهم، ويفقد القدرة على قبول النقد. هذه الحالة تجعله لا يستفيد من المواعظ والنصائح، وبالتالي يتوقف مسار نموه وكماله أو حتى ينعكس. إن طرق مكافحة الغرور الروحي كلها تصب في اتجاه المعرفة الصحيحة للذات ولله. أولاً، التذكير الدائم بالاحتياج والفقر الذاتي لله. كلما ازداد وعي الإنسان بفقره الوجودي واعتماده المطلق على الخالق، قل المجال للغرور والتعالي. ثانيًا، الشكر المستمر على النعم الإلهية، بما في ذلك توفيق العبادة والهداية. فمعرفة أن كل خير يأتينا هو من فضل الله يقوي حس التواضع في الإنسان. ثالثًا، تجنب الحكم على الآخرين واحتقارهم. القرآن ينهى صراحة عن التجسس والغيبة والسخرية من الآخرين (سورة الحجرات، الآيتان 11-12). النظرة المتواضعة للآخرين والتركيز على إصلاح النفس هي حاجز كبير ضد الغرور. رابعًا، الاستمرار في محاسبة النفس والاعتراف بالأخطاء والتقصير. هذا التأمل الذاتي المستمر يمنع الإنسان من الوقوع في فخ الكمالية الزائفة والنرجسية الروحية. أخيرًا، يجب أن نتذكر دائمًا أن الطريق إلى الله طريق طويل، ولا ينبغي أبدًا أن يشعر الإنسان بالأمان من مكر الله، ويجب أن يظل في حالة بناء الذات وطلب المغفرة حتى نهاية العمر. الإيمان الحقيقي لا يعني العمل فحسب، بل يعني أيضًا التواضع والشكر والخدمة الخالصة للخلق، وأي شكل من أشكال الغرور أو التفوق الذاتي هو علامة على نقص في هذا الإيمان.
في أحد الأيام، في زمن سعدي، كان هناك درويش زاهد وساهر الليل، قد بلغ من شدة عبادته وتقشفه درجةً عظيمة، لدرجة أنه بدأ يشعر في قلبه بالتفوق على الكثير من الناس العاديين وحتى بعض العلماء. كان يعتقد أنه بسبب سهره الطويل وصيامه المتواصل، قد اكتسب مكانة خاصة عند الله. وفي إحدى الليالي، كان يهمس في دعائه بغرور، غافلاً عن الآخرين. اقترب منه رجل حكيم علم بحاله، وقال له بابتسامة لطيفة: "يا صديقي العزيز! كل الخير والكمال هو من فضله وكرمه، لا من قوتنا أو استحقاقنا. لو أنك عرفت ذرة من عظمة الله وضعفك وفقرك، لما نظرت أبدًا إلى أي عبد نظرة تفوق. أحيانًا، يكون غبار توبة مذنب نادم حقًا، أثمن عند الله من سجادة عابد امتلأ قلبه بالغرور. اجتهد ألا تغتر بعملك ولا تعتبر نفسك أفضل من الآخرين، فمصدر كل الخير منه وحده، وعبده الحقيقي هو من يكون متواضعًا أمامه وأمام خلقه." فأفاق الدرويش من كلام هذا الرجل الحكيم، وفهم أن الطريق الحقيقي للقرب يكمن في التواضع، لا في الغرور.