ينبع الإرهاق الروحي غالبًا من الانغماس في الحياة الدنيوية، وضعف الإيمان وقساوة القلوب، وانعدام الإخلاص والرياء في العبادات، واليأس من الرحمة الإلهية، وكلها متجذرة في التعاليم القرآنية. ويقدم القرآن العلاج لهذا الإرهاق من خلال العودة إلى ذكر الله، والإخلاص، والصبر.
تعد ظاهرة الإرهاق من الروحانية قضية معقدة ومتجذرة بعمق في الطبيعة البشرية والتحديات التي تواجه الإنسان في مسار العبادة والطاعة لله. على الرغم من أن القرآن الكريم لا يستخدم صراحة عبارة "الإرهاق من الروحانية"، إلا أنه يتناول مرارًا وتكرارًا مفاهيم يمكن اعتبارها الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة. يعلمنا القرآن أن الإنسان، خلال مسيرته في الحياة وعبادته، يواجه العديد من الامتحانات والوساوس والعوامل الداخلية والخارجية التي يمكن أن تبعده عن مسار الروحانية والاتصال بالله، مما يؤدي إلى شعور بالتعب والفتور في العبادات والأعمال الصالحة. هذا الإرهاق ليس مجرد ضعف جسدي، بل هو نوع من الاستنزاف الروحي والقلبي الذي يحول دون التمتع بالنور الإلهي والسكينة الناتجة عن ذكر الله. أحد أهم أسباب الإرهاق الروحي هو الانغماس في الدنيا ونسيان الآخرة. يشير القرآن مراراً إلى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، ويجب ألا يلهيا الإنسان عن ذكر الله والهدف الأسمى من الخلق. فالدنيا، بجاذبيتها الزائلة والخادعة والبراقة، يمكن أن تشغل الإنسان بشدة وتستحوذ على طاقته الروحية ووقته. عندما ينشغل عقل وقلب الإنسان بشكل مفرط بالمسائل المادية، والتنافسات الدنيوية، وجمع الثروة، والمكانة الاجتماعية، والملذات العابرة، فإنه يتغافل تدريجياً عن ذكر الله والروحانية. يقول الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ" (المائدة، الآية 2)، و"قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ" (النساء، الآية 77). هذا الانشغال المفرط بالدنيا يجعل الأعمال العبادية والروحية، بدلاً من أن تكون مصدراً للراحة والنشاط، تتحول إلى عبء ثقيل ونشاط بلا روح. قد يصلي الإنسان ويصوم ويذكر الله، لكن قلبه مشغول بالمال والمكانة أو حتى هموم الحياة اليومية. في هذه الحالة، لا تمنح هذه الأعمال طاقة للروح، وتتحول بمرور الوقت إلى عادة مجردة من المحتوى، مما يؤدي في النهاية إلى شعور بالتعب والنفور. سبب آخر هو ضعف الإيمان وقساوة القلب. الإيمان الحقيقي هو مصدر للطاقة والنشاط الروحي. عندما يضعف إيمان الإنسان، أو لأسباب مختلفة مثل تكرار الذنوب، والبعد عن مجالس الذكر، وعدم التدبر في آيات القرآن والعلامات الإلهية، يقسو قلبه، ويضعف اتصاله بالله. يقول القرآن في سورة الحديد الآية 16: "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" (ألم يحن الوقت للذين آمنوا أن تلين قلوبهم وتخشع لذكر الله وما نزل من الحق؟ ولا يكونوا مثل الذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون). هذه الآية تبين بوضوح أن طول الأمد دون ذكر الله وعدم الانتباه إلى الحقيقة يمكن أن يؤدي إلى قساوة القلب. القلب الذي قسى، لم يعد لديه القدرة على تلقي الفيضانات الإلهية، وتبدو له الأعمال العبادية ثقيلة وبلا روح، وكأن نوراً لا يشرق عليه، وفي ظلامه، يتوقف عن السعي نحو الكمال، ويتبعه شعور بالخمول والوهن. انعدام الإخلاص والرياء عامل مهم أيضاً في إحداث الإرهاق الروحي. عندما تُؤدَّى الأعمال العبادية والخيرية ليس من أجل رضا الله، بل لكسب إعجاب الناس، أو الشهرة، أو لتجنب اللوم من الآخرين، فإن هذه الأعمال تفقد روحها وعمقها الحقيقي. يذم القرآن الكريم الرياء بشدة ويعتبر الأعمال الريائية بلا قيمة. "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ" (البينة، الآية 5) (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين). عندما يكون الهدف من العبادات غير الله، يتعب الإنسان منها تدريجياً؛ لأن توقعاته من النتائج الدنيوية (التي قد لا تتحقق) أو من موافقة الآخرين (وهي غير مستقرة) لا تُلبى. هذا النوع من العبادات، بدلاً من أن يقرب الإنسان إلى الله ويغذي روحه، يجعله فارغاً ومنهكاً، فالروح تسعى إلى الحقيقة، والرياء مجرد تظاهر بالحقيقة. اليأس من رحمة الله أو عدم فهم حكمة الاختبارات هو عامل آخر يغذي الإرهاق الروحي. حياة المؤمن مليئة بالامتحانات والمصاعب التي تهدف إلى رفع درجته وتنقية إيمانه. يقول القرآن في سورة البقرة الآية 155: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين). إذا لم يفهم الإنسان حكمة هذه الاختبارات، أو فقد صبره وتوكله أمام المشاكل وأصابه اليأس، فقد يشعر أن جهوده الروحية لا تجدي نفعاً، وهذا الأمر يرهقه تدريجياً عن مواصلة المسير. اليأس من رحمة الله من الكبائر، ويعتبر بوابة لدخول الشياطين والابتعاد عن الروحانية. عندما يظن الفرد أنه رغم جهوده الروحية لا يزال غارقاً في المشاكل أو أن دعواته لا تستجاب، قد يصيبه الإحباط ويفقد طاقته لمواصلة الطريق. هنا تكمن أهمية الفهم العميق للقضاء والقدر الإلهي والتوكل الحقيقي. باختصار، ينبع الإرهاق من الروحانية من الانحراف عن المسار الصحيح، والغفلة عن ذكر الله، والتلوث بالذنوب، وعدم الإخلاص، وعدم الفهم الصحيح لفلسفة الحياة والامتحانات الإلهية. والحل يكمن في العودة إلى القرآن والسنة، وزيادة الذكر والتفكر، والإخلاص في النية، والصبر والتوكل، وتطهير القلب والروح. الروحانية الحقيقية يجب أن تكون مصدراً للنشاط والسكينة، لا للإرهاق والعبء الثقيل؛ والقرآن يوضح بوضوح طريق الوصول إلى هذا السلام.
يُروى أن رجلاً درويشاً، وقد بدا عليه التعب والضيق، جاء ذات يوم إلى الشيخ الأجل، سعدي الشيرازي، وقال: «يا سيد الكلام، لماذا كلما اجتهدت في طريق الحق وقمت بالأعمال الصالحة، لم يطمئن قلبي وأحياناً أتعب بشدة من هذا الطريق؟» فابتسم سعدي وقال: «يا درويش، في شبابي، انخرطت في التجارة وسنوات طويلة تجولت في أسواق الدنيا الصاخبة، من مدينة إلى أخرى ومن سوق إلى آخر. جمعت أموالاً طائلة، لكن قلبي لم يجد السكينة قط، وكنت أزداد تعباً يوماً بعد يوم، وكأن حملاً ثقيلاً على ظهري أبحث عن شيء لم أجده أبداً. حتى جاء يوم أدركت فيه أن كل هذا الجهد من أجل متاع الدنيا لا يجلب سوى التعب والبعد عن ذاتي الحقيقية. عندئذ فهمت أن الراحة والسكينة لا توجد في جمع كنوز الأرض، بل في كنز القناعة وذكر الحق. ومنذ ذلك الحين، أعرضت عن الدنيا وتوجهت نحو الروحانية، ورأيت أن كل خطوة خطوتها لرضا الحق، لم تذهب تعبي فحسب، بل زادت من نشاطي وسلامي. يا درويش، تعبك نابع من أن نظرتك إلى الروحانية قد تكون لا تزال ممزوجة بتوقعات دنيوية، أو أن قلبك لا يزال متعلقاً ببريق الدنيا. متى ما سلمت قلبك بالكامل للحق ولم تطلب منه سوى ذاته، سيتحول ذلك التعب إلى نشاط، وكل عمل عبادي، كالنبع الصافي، سيروي روحك». عند سماع هذا الكلام، استعاد الدرويش قوته وعثر على طريقه من جديد.