يتجنب بعض الناس العبادة بسبب التعلق المفرط بالدنيا، والجهل، والكبر، واتباع الهوى، والوساوس الشيطانية، فينظرون إليها كعبء. هذه العوامل تبعدهم عن الهدف الحقيقي من الخلق والسلام الداخلي.
إن فهم لماذا يتجنب بعض الناس العبادة والخضوع لربهم يتطلب تأملاً عميقاً في الأبعاد الوجودية للإنسان ونظرة شاملة لتعاليم القرآن الكريم. فالقرآن يوضح صراحة أن الهدف من خلق الجن والإنس هو عبادة الله وحده، كما جاء في سورة الذاريات، الآية 56: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). هذه الآية تبين بوضوح أن العبادة ليست مجرد فرض خارجي، بل هي جوهر الوجود الإنساني والغاية القصوى من خلقه. ولكن على الرغم من هذا الهدف السامي، هناك عدة أسباب من المنظور القرآني تدفع بعض الناس بعيداً عن هذا المسار الفطري والإلهي: 1. التعلق المفرط بالدنيا ومتعها المادية (حب الدنيا): أحد أهم العوامل التي تبعد الإنسان عن العبادة هو الافتتان الزائد بزينة الحياة الدنيا. القرآن الكريم حذّر مراراً وتكراراً من هذا الأمر، واصفاً المال والأولاد والمناصب والشهرة والملذات الزائلة بأنها عوامل للغفلة عن ذكر الله واليوم الآخر. ينسى الإنسان أن الدنيا زائلة وأن الباقي هو العمل الصالح والاتصال بالخالق. هذا التعلق المفرط يجعل الإنسان يكرّس وقته وجهده بالكامل لجمع المال وتحقيق المتعة الدنيوية، فلا يجد مجالاً للعبادات، والتأمل في آيات الله، والاستعداد للدار الباقية. هؤلاء الأشخاص يضحون بالآخرة من أجل الدنيا، ويعتقدون أن تكديس الثروة يمكن أن يحقق لهم السعادة والراحة، بينما لا تتحقق هذه الراحة إلا في ظل ذكر الله والعمل الصالح. في سورة التوبة، الآية 24، ينتقد القرآن بوضوح هذا الترتيب الخاطئ للأولويات: «قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). هذه الآية تبين أن حب الدنيا إذا غلب حب الله ورسوله، فلا يترتب عليه إلا الخسارة. 2. الجهل وغياب الوعي بحقيقة العبادة وهدف الخلق: الكثير ممن يتجنبون العبادة يجهلون حقيقتها وعمق فلسفتها. فهم يرون العبادة مجرد مجموعة من الحركات والأذكار المتكررة التي لا تجلب لهم نفعاً، أو يعتبرونها عبئاً ثقيلاً. في حين أن العبادة هي اتصال عميق ومثمر بخالق الكون؛ هي نبع للطمأنينة، ومصدر لتقوية الإرادة، ووسيلة للنمو الروحي والأخلاقي. لو أدرك الإنسان أن العبادة هي بوابة للسلام مع الذات، والسلام مع العالم، والسلام مع الله، لما أعرض عنها أبداً. إن عدم التأمل في آيات الله، وفي النظام المدهش للكون، وفي العلامات العديدة لقوة الله ورحمته، يدفع الإنسان إلى الغفلة. هذه الغفلة تمنعه من إدراك مكانه الحقيقي في الوجود وحاجته الفطرية إلى خالقه، وبالتالي يبتعد عن الهدف الأساسي من خلقه. القرآن يدعو الناس مراراً وتكراراً للتفكير والتدبر في الخلق ليخرجوا من هذا الجهل والغفلة. 3. الكبر والغرور: عقبة أخرى كبيرة في طريق العبادة هي الكبر والغرور. فالشخص المتكبر يرى نفسه أعلى من أن يخضع لأحد، حتى لو كان هذا الأحد هو خالقه وربه. هذه الصفة المذمومة تجلت لأول مرة في إبليس الذي رفض السجود لآدم. يقول القرآن في سورة البقرة، الآية 34: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين). هذا المثال يوضح بجلاء كيف يمكن للغرور أن يقود الإنسان من قمة العبادة إلى حضيض الكفر والعصيان. المتكبر يرى نفسه غنياً عن الهداية الإلهية، وهذا ما يمنعه من قبول الحق وأداء الأوامر الإلهية، بما في ذلك العبادة. غالباً ما يتباهى هؤلاء الأشخاص بعلمهم أو ثروتهم أو قوتهم، ويعتقدون أنهم بالاعتماد على أنفسهم ليسوا بحاجة إلى الاتصال بالله، بينما كل شيء منه وإليه المصير. 4. اتباع الهوى والشهوات: النفس البشرية لديها ميول، وإذا لم يتم التحكم فيها، يمكن أن تدفع الإنسان نحو الإفراط في اللذة والتهرب من المسؤوليات، بما في ذلك مسؤولية العبادة. اتباع الهوى يعني الاستسلام للرغبات النفسية دون اعتبار للعواقب الأخروية والروحية. عندما تصبح الشهوة والمتعة هي الهدف الرئيسي للحياة، فإن العبادة، التي تتطلب تزكية النفس وضبطها والانضباط، تصبح على الهامش. القرآن يحذر أولئك الذين اتخذوا أهواءهم إلهاً. في سورة الجاثية، الآية 23، يقول: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ» (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون). هذه الآية تبين كيف يؤدي الانقياد الأعمى للهوى إلى الضلال وتجاهل الحقائق الإلهية. 5. الوساوس الشيطانية وتأثير رفقاء السوء: الشيطان، العدو اللدود للإنسان، يسعى دائماً لتحويله عن طريق الحق. من أهم أساليب الشيطان هو إثارة الوساوس، وتثبيط العزائم عن العبادة، وتزيين المعاصي. الشيطان يجعل العبادة تبدو صعبة، أو عديمة الفائدة، أو مملة، ويدفع الإنسان نحو الإهمال والكسل. يستخدم الوعود الكاذبة والتخويف من الفقر إذا سعى الإنسان للأمور الروحية، في محاولة لإبعاده عن طريق العبادة. بالإضافة إلى ذلك، فإن مصاحبة الأشخاص الذين لا يبالون بالعبادة أو يسخرون منها يمكن أن يكون لها تأثير سلبي كبير على روحانية الشخص وإيمانه، ويدفعه أيضاً إلى الإعراض عن العبادة. يؤكد القرآن مراراً على عداوة الشيطان وضرورة الاستعاذة بالله من شره. الخلاصة: إن الإعراض عن العبادة له جذور عميقة في فطرة الفرد، واختياراته، وبيئته. لكن القرآن يفتح باب الرحمة والعودة دائماً. للتغلب على هذه العوامل، يحتاج الإنسان إلى معرفة صحيحة، ومجاهدة للنفس، والابتعاد عن التعلقات المفرطة بالدنيا، واللجوء إلى الله من شر الشيطان. إن التذكر الدائم لهدف الخلق، والتفكر في آيات الله، وطلب العون من الله، يمكن أن يمهد الطريق للعودة إلى مسار العبادة والعثور على الطمأنينة الحقيقية.
يُروى أنه في مدينة بخارى، كان هناك تاجر غني شديد الانغماس في معاملاته وتجارته الدنيوية لدرجة أنه غفل عن ذكر الله ورأى العبادة عبئاً. كلما حل وقت الصلاة، كان يقول: «ليس لدي وقت، العمل كثير والزبائن ينتظرون!» في أحد الأيام، مر درويش زاهد بجوار متجره ورأى التاجر يعد العملات بسرعة كبيرة. ابتسم الدرويش وقال: «يا صديقي، سمعت أنك تعرض عن الطاعة والعبادة، وكأنك ترى العبادة عائقاً للرزق. ولكن اعلم أن الرزق الذي شغلك بهذا الشكل، لا يأتي إلا بإذنه. الدنيا مثل قافلة تمر، وكلما زاد حملك، صعب عليك الوصول إلى وجهتك. أما خفة القلب بذكر الحق، فهي جناح يحررك من الصعوبات.» التاجر، الذي لم يكن يعرف من قبل سوى الأرقام والحسابات، تأثر بكلام الدرويش. فكر في نفسه: ما الفائدة من كل هذا الركض وراء سراب الدنيا سوى التعب؟ ومنذ ذلك الحين، حاول أن يجد وقتاً للعبادة وذكر الله بين مشاغله الكثيرة، وشيئاً فشيئاً تذوق طعم الطمأنينة الحقيقية، وأدرك أن الرضا الإلهي أغلى من أي ثروة.