تبدأ بعض آيات القرآن بالقسم للتأكيد على أهمية ويقين الرسالة التي تليها، ولجذب انتباه المستمع إلى عظمة الخالق ومخلوقاته، ولإبراز قدسية ما أُقسم به.
في الخطاب الإلهي للقرآن الكريم، تُستخدم أساليب بلاغية وأدبية متنوعة لإيصال الرسالة الإلهية بأفضل وأكثر الطرق تأثيرًا، ولتستقر في قلوب البشر. ومن هذه الأساليب القوية والعميقة المعنى، بدء بعض الآيات بالقسم. هذه الأقسام ليست مجرد تعابير أدبية؛ بل تحمل معاني عميقة، وأهدافًا سامية، وحكمًا خفية، والتأمل فيها يفتح آفاقًا واسعة لفهم العديد من الحقائق والأسرار الوجودية. إن بدء الآيات بالقسم في القرآن له أسباب متعددة ومتجذرة، يساهم كل منها بدوره في إثراء المعنى وتأثير الكلمة الإلهية. السبب الأول وربما الأهم هو التأكيد على الحقيقة وتثبيتها. ففي الثقافة العربية، وحتى في العديد من الثقافات الأخرى، يُعدّ القسم وسيلة لتأكيد القول بشكل قاطع، وإثبات صدق المتكلم، وإزالة أي شك أو تردد. عندما يقسم الله تعالى بشيء، فإن هذا يعني أن ما يأتي بعد القسم (المُقْسَم عليه) هو حقيقة مُسلّم بها، لا تقبل الشك، وتتمتع بأهمية ويقين يستدعي حتى قسمًا إلهيًا للتأكيد عليها. هذه الطريقة تجعل المستمع يدرك أنه لا يتعامل مع أمر عادي أو بسيط، بل مع موضوع يتمتع بمكانة رفيعة لدرجة أن خالق الكون قد أقسم به. هذا التأكيد كان فعالاً جدًا، خاصة عند مواجهة المخاطبين الذين كانت لديهم شكوك في الحقائق الإلهية أو كانوا ينكرونها صراحة. الهدف الثاني من الأقسام هو جذب انتباه المخاطب وتحفيز حسه على التفكير والتدبر. فما يقسم به الله عادة ما يكون من المخلوقات العظيمة والظواهر المذهلة في الكون، مثل الشمس، القمر، النجوم، الليل، النهار، الفجر، العصر، التين، الزيتون، القلم، جبل الطور، وحتى النفس البشرية. هذه الأقسام ليست لمجرد التأكيد على مسألة ما؛ بل هي بحد ذاتها دعوة للتأمل في عظمة هذه الظواهر ونظامها. وكأن الله بقسمه بهذه الآيات الآفاقية والأنفسية، يدعو الإنسان للنظر فيها، ومن خلالها يتوصل إلى وجود الخالق وقدرته وحكمته وعلمه اللامتناهي. كل من هذه الظواهر هي دليل واضح على وحدانية الله، وهدفية الخلق، وحقيقة المعاد. فعندما تبدأ آية بـ "والشمس وضحاها"، يدرك المستمع لا شعوريًا عظمة الشمس ودورها الحيوي في الحياة، ويُجهز ذهنه لاستقبال الرسالة الأساسية للآية، والتي غالبًا ما تكون حول تزكية النفس أو فسادها. هذه الطريقة هي بمثابة مقدمة فكرية ونفسية تُهيئ الذهن لقبول الحقيقة. الحكمة الثالثة هي تشريف ما أُقسم به. عندما يقسم الله بظاهرة من مخلوقاته، فإن هذا يمنح تلك الظاهرة مكانة وشرفًا عاليين. هذا القسم يعبر عن العظمة والأهمية والدور الخاص الذي تلعبه تلك الظاهرة في النظام الكوني وفي الحكمة الإلهية. على سبيل المثال، القسم بـ "القلم وما يسطرون" في سورة القلم، يدل على الأهمية القصوى للمعرفة والكتابة ونقل العلم في الرؤية القرآنية. هذا القسم يوضح المكانة الرفيعة للعلم وأدواته عند الله تعالى، ويُنبه الإنسان إلى أهميتها في طريق الهداية والكمال. وكذلك القسم بـ "التين والزيتون" الذي لا يشير فقط إلى فواكه قيمة، بل يرمز أيضًا إلى المناطق المقدسة لنزول الوحي، مما يظهر عمق المعنى واتساع الإشارات القرآنية. السبب الرابع هو إثارة الرغبة والتشجيع على الاستماع إلى بقية الكلام. الأقسام، خاصة في بداية السور المكية القصيرة التي غالبًا ما تحمل لهجة قوية وتحذيرية، تعمل كخطاف يجذب انتباه المخاطب ويحفزه على الاستماع وفهم ما يأتي بعد القسم. كانت هذه الطريقة فعالة جدًا، خاصة في بيئة كان فيها الأفراد يبدون مقاومة للرسالة الإلهية أو يسخرون منها. ببدء جذاب وقوي، يفتح القرآن الطريق لاختراق كلمة الحق إلى القلوب. في الختام، يمكن القول إن الأقسام في القرآن ليست مجرد أداة بلاغية للتأكيد على الحقيقة وجذب الانتباه فحسب، بل هي جسر بين عالم الخلق وعالم الأمر، بين العلامات الظاهرية والحقائق الباطنية، وبين الوجود المادي والرسالة الروحية. كل قسم قرآني هو نافذة نحو فهم أعمق للخالق، والخلق، وهدف الحياة. هذه الأقسام تعلمنا كيف نتفكر في العالم من حولنا، وكيف ننتبه إلى الآيات الإلهية، وكيف نستخدمها لتعزيز الإيمان والوصول إلى المعرفة. إنها تذكرنا بحقيقة أن كل شيء في هذا الكون قد خُلق بحكمة دقيقة، وأن كل ظاهرة هي شاهد على عظمة الله وقدرته اللامتناهية، وأن الرسالة الإلهية التي تأتي بعد هذه الأقسام متجذرة في هذه العظمة والحقيقة.
في قديم الزمان، كان هناك رجل حكيم يتحدث في جمع، مؤيدًا الصدق والنزاهة في الكلمات. فسأله أحد المستمعين وهو مليء بالشك: "كيف يمكننا أن نثق بأن كلامك هو الحقيقة المطلقة؟" ابتسم الرجل الحكيم وقال: "يقول سعدي: «الصدق كمال الرجل، والاعوجاج علامة على الحقارة.» ولكن في كلام الله، أحيانًا، لتقديم دليل قوي وحاسم على حقيقة ما، يقسم الله بنفسه بعظمة مخلوقاته. وكأن الله، بقسمه بالشمس الساطعة أو الليل الهادئ، يريد أن يذكر الإنسان بأن كل ما يأتي بعد ذلك هو حقيقة واضحة كالنور وثابتة كالليل. هذه الأقسام ليست لإثبات قدرة الله، فقدرته لا تحتاج إلى قسم، بل لتقوية قلوبكم لتعلموا مدى عمق كل كلمة إلهية في الحقيقة العظيمة. إنها دعوة للتأمل في نفس العلامات التي ترونها كل يوم وتمرون بجانبها. لذا، بدل الشك، انظروا إلى العلامات وتجدوا فيها الحقيقة.