السعادة الحقيقية تكمن في القلب وذكر الله، لا في كثرة الإمكانيات المادية الزائلة. ألا بذكر الله تطمئن القلوب، والقناعة هي مفتاح الرضا الحقيقي.
لماذا نشعر بعدم السعادة على الرغم من توفر الكثير من الإمكانيات؟ هذا سؤال عميق ومحير يواجهه الكثير من الناس في العصر الحديث. في عالم يوفر وسائل الراحة غير المسبوقة، والوصول السهل إلى المعلومات، والفرص التي لا تعد ولا تحصى، يبدو من الغريب أن شعوراً منتشراً بعدم الرضا والفراغ الداخلي لا يزال يسيطر على الكثير منا. من منظور القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية، فإن هذا الشعور بعدم الرضا، حتى في خضم الوفرة المادية، ليس فقط مفهوماً بل هو أيضاً انعكاس عميق لطبيعة الوجود البشري الحقيقية والغرض من الحياة. يقدم القرآن رؤى عميقة حول السبب في أن السعي وراء ممتلكات الدنيا وحدها هو طريق غير كافٍ للوصول إلى الرضا والسعادة الدائمة. في جوهرها، يعلمنا القرآن أن هذه الحياة الدنيا هي حياة عابرة ومجرد ميدان للاختبار. إنها ليست المستقر الأخير ولا مصدر السعادة الحقيقية والدائمة. يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحديد (57:20): «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.» تصور هذه الآية بوضوح الطبيعة الزائلة للممتلكات المادية ومساعي الدنيا. فكما أن النبات يزدهر لفترة وجيزة ثم يذبل، كذلك هي الأفراح المستمدة فقط من الثروة والمكانة – مؤقتة وغير مرضية في النهاية. يصبح السعي المستمر وراء "المزيد" سباقاً بلا خط نهاية، مما يؤدي إلى الإرهاق بدلاً من السعادة الغامرة. هذا العطش الذي لا ينضب للاستحواذ على المزيد هو فخ يمنع الإنسان من السلام الداخلي، ويدفع به إلى دوامة من المطاردة التي لا تنتهي. إن القلب البشري، وفقاً للقرآن، مصمم لرباط أعمق، اتصال بخالقه. الطمأنينة والسلام الحقيقيان لا يوجدان في الحسابات المصرفية، أو المنازل الفاخرة، أو الترفيه اللامتناهي، بل في ذكر الله. تعلن سورة الرعد (13:28): «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.» هذه الآية هي مبدأ أساسي. عندما يكون تركيزنا الأساسي على جمع السلع الدنيوية، فإننا نهمل الغذاء الروحي الذي تتوق إليه أرواحنا حقاً. الفراغ الذي نشعر به، على الرغم من الوفرة الخارجية، هو غالباً حنين الروح إلى أصلها، وهدفها، وارتباطها بالذات الإلهية. يمكن للأشياء المادية أن توفر الراحة والسهولة والمتعة، لكنها لا تستطيع سد الفراغ الروحي الذي لا يمكن أن يملأه إلا الله. إن مطاردة المزيد من الممتلكات هي دورة مستمرة من الرغبة والرضا العابر، وغالباً ما تؤدي إلى الحسد، والقلق من الخسارة، ونقص الامتنان لما يمتلكه المرء بالفعل. هذا الشعور بعدم الاكتفاء يدفع الإنسان إلى البحث المستمر عن شيء جديد يظن أنه سيجلب السعادة، ولكن هذا البحث غالباً ما يكون بلا جدوى. علاوة على ذلك، يحذر القرآن من الانغماس في الرغبات الدنيوية إلى حد أنها تلهينا عن هدفنا الأسمى – الاستعداد للآخرة. يقول الله تعالى في سورة التكاثر (102:1-2): «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ.» تسلط هذه الآية القوية الضوء على كيف يمكن للسعي الدؤوب وراء المزيد من الثروة والمكانة والمتعة أن يستهلك حياة الإنسان، ويصرف انتباهه عن النمو الروحي، والأعمال الصالحة، وحقيقة الموت والمساءلة الحتمية. يؤدي هذا التشتت إلى وجود سطحي، خالٍ من المعنى الأعمق، حيث تصبح السعادة مشروطة بعوامل خارجية غير مستقرة بطبيعتها. عندما ترتبط قيمتنا الذاتية وسعادتنا بالإنجازات أو الممتلكات الخارجية، نصبح عرضة لتقلبات العالم، مما يؤدي إلى عدم الاستقرار في حالتنا العاطفية. إن غياب الهدف الأسمى والمعنى الحقيقي للحياة يغرق الإنسان في دوامة من الضياع والفراغ الداخلي. يشجع المنظور الإسلامي على مقاربة متوازنة: يجب على المرء أن يسعى لكسب الرزق الحلال والاستمتاع بالطيبات من هذه الدنيا، ولكن دائماً مع الوعي بأن هذه وسيلة وليست غاية. الهدف الأسمى هو رضا الله والنجاح في الآخرة. عندما تُنظر إلى الثروة والموارد على أنها أدوات لتحقيق الخير، ومساعدة الآخرين، والتقرب إلى الله، بدلاً من أن تكون أصناماً تعبد، عندئذ يمكن أن تصبح مصادر بركة ورضا. يلعب الشكر (الامتنان) دوراً حيوياً هنا. عندما نقارن أنفسنا باستمرار بمن لديهم المزيد، أو عندما نعتبر نعم الله أمراً مسلماً به، فإننا نزرع بذور عدم الرضا. يشجعنا القرآن على التأمل في نعم الله وأن نكون شاكرين، مما يعزز في حد ذاته شعوراً بالرضا والسلام الداخلي. هذا الشكر يزيد النعم ويبارك فيها، فيشعر الإنسان بالاكتفاء بما لديه بدلاً من التلهف على ما ليس عنده. ختاماً، ينبع الشعور بعدم السعادة على الرغم من توفر الموارد الوفيرة من اختلال أساسي في الأولويات. إنه يشير إلى إهمال البعد الروحي للحياة والإفراط في التركيز على الجانب المادي. السعادة الحقيقية، من وجهة نظر قرآنية، هي حالة داخلية من السلام والرضا والهدوء تنبع من ارتباط قوي بالله، وعيش حياة هادفة، ومليئة بالامتنان، والسعي لتحقيق الآخرة. يتعلق الأمر بفهم أنه بينما يقدم العالم متعاً مؤقتة، فإن الإشباع المطلق يوجد في العبادة، والأعمال الصالحة، وإدراك أن كل ما نملكه هو أمانة من الله. عندما تمتلئ القلوب بذكر الله والخضوع لإرادته، تتضاءل جاذبية المتع الدنيوية الزائلة، ويتجذر شعور عميق ودائم بالفرح والسلام الداخلي، مستقلاً عن الظروف الخارجية. هذا المنظور الإلهي يرشدنا إلى إعادة معايرة فهمنا للنجاح والسعادة، ويوجهنا نحو ما يهم حقاً ويجلب الرضا الدائم.
يُروى أن في بغداد كان هناك سلطان لديه خزانة ممتلئة وقصور فخمة، لكن الابتسامة لم تفارق شفتيه قط، ولم يجد السلام أبداً في قلبه. كان يشكو باستمرار من النقصان ولم يكن راضياً أبداً بما يمتلكه. ذات يوم، أُحضر إليه حكيم. سأله السلطان: 'يا حكيم، مع كل هذا الثراء والقوة، لماذا لا أتذوق حلاوة السعادة؟' ابتسم الحكيم وقال: 'يا أيها الملك، السعادة لا توجد في خزائن الذهب والفضة، بل في خزائن القلب. إذا اطمأن القلب بذكر الحق (الله)، أصبح العالم كله كالشوك في عينيه؛ أما إذا غفل القلب عنه، فلن يرضيك العالم بأسره.' وتابع الحكيم: 'في أحد الأيام، رأيت درويشاً في زقاق، جالساً على قطعة حصير مهترئة، يأكل قطعة خبز يابسة بأقصى درجات القناعة ويشكر الله. سألته: 'كيف لك أن تكون سعيداً وراضياً هكذا على الرغم من هذا الفقر؟' فأجاب الدرويش: 'يا سيدي الكريم، السعادة ليست في الفقر أو الغنى، بل في رضا القلب. فالملك الذي قلبه مليء بالطمع والجشع، حتى لو جلس على عرش من ذهب، فهو أفقر الناس؛ والدرويش الذي قلبه منشغل بالله، حتى لو عاش في الخراب، فهو الملك الحقيقي.' عند سماع هذه الكلمات، غرق السلطان في التفكير وأدرك أن كنز السعادة يكمن في الداخل، وليس في الخارج.