قد ينبع الشعور بالذنب غير المبرر من وساوس الشيطان أو حساسية مفرطة من النفس اللوامة. يؤكد القرآن على مغفرة الله وعدله، ويطمئن بأن الله لا يحاسب العبد بلا سبب، لذا يمكن إيجاد السلام باللجوء إلى الله وزيادة المعرفة.
الشعور بالذنب، حتى عندما يبدو أننا لم نرتكب أي خطأ شرعي أو أخلاقي، هو تجربة معقدة ومحيرة في بعض الأحيان يواجهها الكثير من الناس طوال حياتهم. يمكن أن ينبع هذا الشعور من مصادر مختلفة، بعضها له جذور قرآنية وإسلامية عميقة. إن فهم هذه المصادر وكيفية التعامل معها من منظور القرآن الكريم يمكن أن يمنح الروح والقلب راحة عميقة ويساعدنا على التمييز بين الذنب الحقيقي والوساوس الداخلية. يصف القرآن الكريم الإنسان بأنه كائن مركب من الروح والجسد، يتمتع بفطرة إلهية نقية، ولكنه في الوقت نفسه معرض للوساوس الشيطانية وضعف النفس. أحد أهم الأسباب للشعور بالذنب دون ارتكاب ذنب حقيقي قد يكون الوساوس الشيطانية. إن الشيطان هو العدو الواضح للإنسان، ويسعى دائمًا من خلال إثارة الشك واليأس والقلق والمشاعر السلبية، إلى إبعاد الإنسان عن طريق الحق وتعكير صفو سلامته النفسية. يشير القرآن إلى هذه الوساوس في آيات متعددة. على سبيل المثال، في سورة الناس (الآيتان 4 و 5)، يقول الله تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ». هذه الآيات تُظهر بوضوح أن الشيطان، من خلال وساوسه، يلقي بالأفكار السلبية والمشاعر غير السارة في قلب الإنسان. ويمكن أن يكون الشعور بالذنب غير المبرر أحد هذه الوساوس، الذي يهدف إلى إثارة اليأس والقنوط في نفس المؤمن لإبعاده عن رحمة الله ومنعه من التقدم في طريق العبودية لله. سبب آخر لهذا الشعور قد يكون «النفس اللوامة». يقول القرآن في سورة القيامة (الآية 2): «وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ». النفس اللوامة هي الضمير الحي للإنسان الذي يلوم الفرد بعد ارتكاب الذنب ويحثه على التوبة والإصلاح. وهذا اللوم في الأصل نعمة إلهية تمنع الإنسان من الغرق الكامل في الذنوب. ولكن في بعض الأحيان، يمكن أن تصبح هذه النفس اللوامة حساسة للغاية، وتعاتب الإنسان حتى على أمور ليست ذنوبًا أو كانت مجرد فكرة عابرة. هذه الحساسية المفرطة، خاصة لدى الأشخاص ذوي الضمير الحي والتقوى، قد تؤدي إلى شعور بالذنب لا ينبع من مصدر خارجي أو فعل محرم. في مثل هذه الحالات، يجب تهدئة النفس بمعرفة صحيحة لحدود الأحكام الإلهية ورحمة الرب الواسعة. هنا تبرز أهمية التمييز بين الوساوس الشيطانية ولوم النفس اللوامة؛ فالنفس اللوامة تدعو في النهاية إلى الصلاح والتوبة، بينما وسوسة الشيطان تؤدي إلى اليأس والقنوط. يؤكد القرآن الكريم دائمًا على رحمة الله ومغفرته اللامتناهية. إذا لم يرتكب الفرد ذنبًا حقيقيًا، فلا يوجد سبب للشعور بالذنب من جانب الرب. الله عادل ورحمن ولا يظلم أحدًا أبدًا. في سورة الزمر (الآية 53) يقول الله تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». هذه الآية تُظهر عظمة الرحمة الإلهية، التي تفتح باب العودة والمغفرة حتى للعصاة الحقيقيين. فكيف إذن يمكن أن يكون الشعور بالذنب مبررًا لمن لم يرتكب ذنبًا؟ هذه الآية تحمل رسالة قاطعة ضد اليأس والقنوط، ويمكن استخدامها لمواجهة الوساوس التي تلقي بالشعور بالذنب غير المبرر في قلب الإنسان. للتغلب على هذا الشعور بالذنب غير المبرر، يقدم القرآن حلولًا. الخطوة الأولى هي اللجوء إلى الله والاستعاذة من شر الشيطان. تلاوة القرآن، وذكر الله، والتضرع إليه، تشكل سدًا منيعًا أمام الوساوس. ثانيًا، زيادة الوعي والمعرفة الصحيحة بالدين والأحكام الإلهية. فكلما كان للإنسان فهم أدق للذنب والثواب، قلّت حيرته وتمكن من التمييز بين الوسوسة والحقيقة. ثالثًا، الانتباه إلى النوايا والأعمال الصالحة. إذا كانت نية الإنسان نقية وسار في طريق الخير، فعليه أن يرجو فضل الله ورحمته ولا يسمح للوساوس السلبية أن تمنعه من مساره. رابعًا، التركيز على الحاضر والمستقبل، وعدم الغرق في ماضٍ وهمي أو افتراضي. يؤكد الإسلام على المضي قدمًا والتوبة وتصحيح الأخطاء، وليس الركود في المشاعر السلبية التي لا أساس لها. أحيانًا، يمكن أن ينشأ الشعور بالذنب أيضًا من معايير شخصية صارمة تتجاوز الأطر الشرعية. وقد ينبع هذا من التربية أو من طبيعة الشخصية. في مثل هذه الحالة، يجب على الإنسان أن يكون أكثر لطفًا مع نفسه ويتقبل أن الله لا يطلب من نفسٍ أكثر مما تستطيع (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا - البقرة، الآية 286). في الختام، إن السلام الروحي والتحرر من الشعور بالذنب غير المبرر يكمن في الثقة الكاملة برحمة الله وعدله. إذا بذل الإنسان قصارى جهده ليعيش حياة صحيحة ويتجنب الذنوب، فعليه أن يؤمن بمغفرة ربه وفهمه، وأن يعلم أن الله لن يحاسب عبدًا على ذنب لم يرتكبه، أو على وسوسة مرت بخاطره ولم تتحول إلى فعل. هذا الإيمان يساعده على العيش بسلام أكبر، وتوجيه طاقته نحو البناء والنمو، بدلاً من التحليل المفرط ولوم الذات غير المبرر. هذا المسار هو طريق نحو حياة روحية وصحية وأكثر إثمارًا، حيث يمكن للمرء أن يشعر برحمة الله ورضاه في كل لحظة، وأن يلجأ إلى ربه من الوساوس الخفية. إن الشعور بالذنب غير المبرر هو عقبة في طريق التقدم الروحي، ويزيل القرآن بهذه التوجيهات هذه العقبات ويمهد الطريق للوصول إلى السلام الحقيقي. بالتوكل على الله والعمل بهذه التوجيهات، يمكن التحرر من فخ هذه المشاعر المدمرة والمضي قدمًا نحو حياة مليئة بالسلام الداخلي.
ذات يوم، جاء رجل قلق إلى الشيخ الجليل سعدي الشيرازي، وقال بتنهيدة عميقة: «يا شيخ، إنني أشعر دائمًا بذنب في قلبي، رغم أنني لا أتذكر أنني ارتكبت خطأً كبيرًا. إنه كحِمل ثقيل على عاتقي.» أجاب سعدي بابتسامة حانية: «يا صديقي، هل رأيت يومًا غبارًا يستقر على شمعة مضاءة فيطفئها؟ أحيانًا يكون قلب المؤمن نقيًا ومضيئًا لدرجة أن حتى ظل فكرة غير سارة أو خطأ صغير خفي يثقل عليه ويجلب شعورًا بالذنب. هذه علامة على حيوية ضميرك، وليس بالضرورة ارتكاب ذنب عظيم. اعتبره غبارًا على الشمعة المضيئة. تذكر أن الله غفور رحيم، ولا يكلف نفسًا إلا وسعها. إذا شهد قلبك بنقائه ولا يوجد فيه سوى ذكر الله وحسن النية، فعندما يثقل هذا العبء على قلبك، استعذ بالله من شر الوسواس. واعلم أن الله عليم بالنوايا الطاهرة وجهودك، ولا يحاسب عبدًا بلا سبب. بدلًا من الاستسلام لهذا الشعور، زد من حسناتك واجعل قلبك أكثر إشراقًا بذكره، فإن الحسنات يذهبن السيئات.» شعر الرجل بالراحة بعد سماع هذه الكلمات، وأدرك أن طريق التحرر من هذا القلق ليس في لوم الذات غير المبرر، بل في التوكل على الله وزيادة الأعمال الصالحة.