الصعوبات في الطريق الصحيح هي اختبار إلهي لتقوية الإيمان والإرادة، ووسيلة لتطهير الذنوب ورفع الدرجات الروحية، موصلة الإنسان إلى الكمال والقرب الإلهي. هذه الابتلاءات ليست فقط علامة على اللطف الإلهي للنمو، بل تحمل وعدًا باليسر بعد كل عسر.
هذا سؤال عميق يشغل أذهان العديد من الباحثين عن الحقيقة، والسائرين في درب العبودية، وحتى الأشخاص العاديين. فعندما يقرر الإنسان أن يسلك طريق الخير والإيمان والطاعة لله تعالى، يتوقع أن يصبح مساره أسهل وأيسر. ومع ذلك، قد يجد نفسه، لمفاجأته، أن الصعوبات والتحديات لا تتناقص فحسب، بل تزداد حدةً. يمكن لهذه التجربة أن تؤدي إلى الشك واليأس وحتى الارتباك. ولكن القرآن الكريم، كتاب الهداية الإلهية، يجيب على هذا السؤال بمنظور عميق وحكيم، كاشفًا الطبقات الخفية لهذه الابتلاءات. فمن المنظور القرآني، الصعوبات في الطريق الصحيح ليست مجرد أحداث عشوائية أو بلا هدف، بل هي جزء لا يتجزأ، وهادف، وحكيم من الخطة الإلهية لنمو الإنسان وكماله. أحد الأسباب المحورية لزيادة الصعوبات في الطريق الصحيح هو "الابتلاء الإلهي" أو "الاختبار". فقد صرح الله تعالى في آيات عديدة أنه يختبر البشر ليميز الصادقين من الكاذبين، والمؤمنين الحقيقيين من أولئك الذين إيمانهم سطحي وظاهري. تتضمن هذه الاختبارات أحيانًا شيئًا من الخوف والجوع ونقصًا في الأموال والأنفس والثمرات، كما جاء في سورة البقرة (الآية 155): "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ". توضح هذه الآية بجلاء أن الشدائد هي أداة إلهية لقياس مدى إيمان الإنسان وصبره. تصوروا أن معدنًا ثمينًا مثل الذهب يحتاج إلى التعرض لحرارة شديدة وصهر لإزالة شوائبه؛ كذلك إيمان الإنسان يصقل ويقوى في بوتقة الأحداث والمشاكل. هذه الاختبارات ليست لأن الله غافل عن حالنا (فهو العليم بكل شيء)، بل هي لتظهر حقيقة دواخلنا، وقدراتنا الكامنة، ومدى ثباتنا على طريق الحق، لأنفسنا وللآخرين. إن هذه العملية ضرورية للنضج الروحي الحقيقي، فهي تضمن أن يكون إيماننا عميق الجذور ومرنًا، وليس مجرد شعور عابر. سبب آخر مهم هو "التطهير ورفع الدرجات". فالعديد من الصعوبات والمشقات التي نتحملها في سبيل الله تكون كفارة لذنوبنا، وتطهر أرواحنا من الشوائب. لقد قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه". فعندما يسير الإنسان في طريق الحق ويواجه العقبات، فإن صبره وثباته لا يمحوان ذنوبه الماضية فحسب، بل يؤديان أيضًا إلى رفع درجته الروحية وقربه من ربه. هذه الصعوبات هي فرص للسيطرة على النفس الأمارة بالسوء، وتقليل التعلق بالدنيا، وتوجيه القلب بالكامل نحو خالق الوجود. أحيانًا يختبر الله عباده الخاصين بشدائد أكبر لتوسيع قدراتهم الوجودية وإعدادهم لمقامات أعلى. حياة الأنبياء والأولياء الصالحين خير دليل على هذا الادعاء. لم يكن هناك نبي إلا واجه صعوبات جمة في مسيرته الدعوية؛ من نوح (عليه السلام) وصبره الطويل، إلى أيوب (عليه السلام) وبلاءاته، ويوسف (عليه السلام) وسجنه، والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ومشقّاته الكثيرة في تبليغ الدين. هذه الصعوبات لم تعيق نموهم؛ بل دفعتهم إلى ذروة الكمال البشري والتميز الروحي، فجعلتهم نماذج للصمود والخضوع. الحكمة الثالثة في زيادة الصعوبات هي "تقوية الإرادة والصمود". فالإنسان غالبًا ما يميل إلى الضعف والكسل في الراحة واليسر. ولكن مواجهة المشاكل تدفعه إلى التفكير، والبحث عن الحلول، وبذل المزيد من الجهد. هذه الجهود تؤدي إلى تقوية قوة الإرادة، والصبر، والثبات. في سورة العنكبوت (الآيتين 2 و 3) نقرأ: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿٣﴾". توضح هذه الآيات بوضوح أن الإيمان الحقيقي هو الذي يثبت في غمار الأحداث والشدائد. الصبر في مواجهة المشاكل يشبه العضلة التي تقوى بالتدريب والضغط. كل صعوبة تعلم درسًا جديدًا وتجلب تجربة لا تقدر بثمن، مما يهيئ الإنسان لتحديات أكبر. هذه العملية تصقل الشخصية، وتغرس الفضائل مثل الشكر في الرخاء والصبر في الشدائد، وتشكل الأفراد ليكونوا كائنات أكثر كمالًا ووعيًا بالله. علاوة على ذلك، يمكن أن تكون الصعوبات بمثابة "معيار لتمييز الحق من الباطل". ففي طريق الحق، يوجد دائمًا خصوم وأعداء يحاولون تضليل المؤمنين أو إعاقة تقدمهم. هذه العقبات والصعوبات تعمل كمنخل. فالذين إيمانهم ضعيف ويسعون فقط وراء المصالح الدنيوية، ينحرفون عن طريق الحق بأدنى ضغط أو مشكلة. أما الذين إيمانهم راسخ ونقي، فيبقون ثابتين رغم كل الصعوبات. هذا الفصل يساعد المجتمع المؤمن على التعرف على أفراده الحقيقيين وتطهير صفوفه من العناصر غير النقية. تضمن عملية التصفية الإلهية هذه أن يظل مجتمع المؤمنين قويًا وموحدًا، مبنيًا على القناعة الحقيقية وليس على الالتزام السطحي. نقطة حاسمة أخرى يسلط عليها القرآن الضوء هي "الحكمة الإلهية". أحيانًا، نحن البشر نجهل الحكمة الكامنة وراء الأحداث والصعوبات. فرؤيتنا محدودة، ونحن ندرك جزءًا صغيرًا فقط من الخطة الكونية العظيمة. فالله تعالى، بناءً على علمه اللامتناهي وحكمته المطلقة، يدبر الأمور بطرق لا يمكننا فهمها فورًا. قصة موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام) في سورة الكهف هي مثال بارز على هذه الحكمة الخفية. كانت تصرفات الخضر (مثل خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار) تبدو غير منطقية وحتى ظالمة للوهلة الأولى، ولكن في النهاية، اتضح أن كل فعل كان يحمل حكمة عميقة وخيرًا خفيًا. هذا يعلمنا أنه حتى لو لم نفهم سبب صعوباتنا، يجب أن نثق في حكمة الله ورحمته. فهو لا يظلم عباده أبدًا، وكل ما يقدره لهم يحتوي على الخير والمصلحة النهائية لهم. هذا التوكل هو حجر الزاوية في الإيمان الحقيقي، مما يسمح للمؤمنين بتجاوز عواصف الحياة بسلام داخلي، مع العلم أن خالقًا محسنًا وحكيمًا هو المسيطر. أخيرًا، يزف القرآن الكريم لنا البشرى بأن أجر الصابرين على الشدائد لا حد له. في سورة الزمر (الآية 10) نقرأ: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ". هذا يعني أن كل دمعة تسكب، وكل لحظة ألم، وكل ثانية مقاومة تُتحمل في سبيل الله، محفوظة عند القدير وستُعوض بأفضل شكل ممكن. هذا الأجر ليس فقط في الآخرة، بل أحيانًا في هذه الدنيا أيضًا، في شكل سكينة قلبية، ورضا داخلي، وفتوحات غير متوقعة. والوعد الإلهي في سورة الشرح (الانشراح)، الآيتين 5 و 6، هو دائمًا مصدر راحة: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٥﴾ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴿٦﴾". هذا التكرار يؤكد حتمية هذا الوعد الإلهي: أنه بعد كل صعوبة، هناك يسر وفرج. هذه الصعوبات مؤقتة ويجب ألا تؤدي إلى اليأس؛ بل يجب على المرء أن يستمر بأمل في الفرج الإلهي، مؤمنًا بوعود الله بأن بعد كل ظلام نور، وبعد كل شدة يسر. هذه العملية تشبه البستاني الماهر الذي يقلم شجرة للحصول على ثمار أفضل، لتنتج فواكه أحلى. الصعوبات هي تقليم أرواحنا، تساعدنا على النمو بشكل أقوى وحمل ثمار الإيمان الحقيقي والقرب من الله. باختصار، زيادة الصعوبات في الطريق الصحيح ليست علامة على نسيان إلهي أو خطأ في المسار. بدلاً من ذلك، إنها اختبار لقياس الإيمان، ووسيلة لتطهير الذنوب ورفع الدرجات، وعامل لتقوية الروح والإرادة، وفرصة لتمييز المؤمنين الحقيقيين عن المدعين. هذه الصعوبات جزء من تدبير الله الحكيم الذي يؤدي في النهاية إلى كمال الإنسان وسعادته الأبدية. لذلك، بدلاً من اليأس، يجب على المرء أن يستمر في هذا الطريق بالصبر والتوكل على الله والدعاء، مؤمنًا بالوعود الإلهية بأنه بعد كل ظلام نور، وبعد كل شدة يسر.
في يوم من الأيام، عزم درويش على السفر في رحلة، عاقدًا العزم على الوصول إلى نبع الحكمة والمعرفة الإلهية. كان طريقه وعرًا ومليئًا بالمنعطفات؛ صحاري قاحلة، وجبال شاهقة، وأنهار هادرة اعترضت سبيله. مع كل خطوة يخطوها، كان التعب والجوع يتغلبان عليه، وكانت همسات الإغراء تصل إلى أذنيه: "هذا طريق بلا نهاية، عُد أدراجك!" لكن الدرويش، الذي كان قلبه متعلقًا بالمحبوب، وكان يعلم أن كل شدة في سبيله هي بحد ذاتها سلم يقوده نحو القرب الإلهي، استمر بثبات مدهش. وخزت الأشواك قدميه، وحرقت الشمس الحارقة بشرته، وجعلته الليالي الباردة يرتجف، ومع ذلك لم يتوقف عن ذكر الله، وكان على يقين بأن كل خطوة تقربه من مقصده. بعد سنوات من المعاناة والصبر، وصل أخيرًا إلى غايته. في خلوته مع الحق تعالى، أشرق نور المعرفة في قلبه، وغمر السلام الذي لا يوصف كيانه. حينئذ أدرك أن كل تلك الصعوبات لم تكن عقبات، بل كانت الطريق نفسه؛ طريقًا حرره من كل تعلقات الدنيا، وهيأ قلبه لاستقبال الأنوار الإلهية. بابتسامة نابعة من أعماق روحه، قال: "الحمد لله أن الطريق كان صعبًا، وإلا لبلغه كل ضعيف، ولما عرف قدره."