إن عدم معاقبة الظالمين فورًا ينبع من الحكمة والرحمة الإلهية؛ فهي فرصة للتوبة، واختبار للمؤمنين، وتأخير للعدالة النهائية في الآخرة. يمنح الله الظالم مهلة لتتراكم ذنوبه، ثم ينال العقاب الكامل.
إن سؤال "لماذا لا يعاقب الله بعض الظالمين فورًا؟" هو أحد أعمق التساؤلات وأكثرها تكرارًا عبر تاريخ البشرية، لا سيما عند مواجهة الظلم والجور. ينبع هذا السؤال من الفطرة البشرية التي تنشد العدالة، ويسعى لفهم الحكمة والعدل الإلهي في مواجهة الظواهر الدنيوية التي تبدو غير عادلة. القرآن الكريم، بصفته كلام الله، يقدم إجابات متعددة لهذا السؤال، وكلها متجذرة في صفات الله الكاملة: حكمته، ورحمته، وعدله، وصبره، وعلمه اللانهائي. أحد أهم الأسباب لعدم معاقبة الظالمين فورًا هو "إتاحة الفرصة للتوبة والعودة". إن الله تعالى، الرحمن الرحيم، بمنتهى رحمته وغفرانه، يمهل حتى الظالمين، لعلهم يتعظون، ويندمون على ذنوبهم، ويغيرون مسار حياتهم. هذا الإمهال ليس عن لا مبالاة، بل هو نابع من المحبة والرغبة في هداية عباده. يؤكد القرآن مرارًا أن الله يفتح باب التوبة للإنسان حتى اللحظات الأخيرة من حياته. لو شاء الله، لأهلك كل ظالم في اللحظة الأولى لظلمه، ولكن هذا يتعارض مع صفتيه "التواب" و"الرحيم". هذه المهلة هي فرصة ذهبية للإصلاح، وإذا أساء أحدهم استخدام هذه الفرصة، فإن المسؤولية تقع على عاتقه وحده. السبب الثاني هو "الاختبار والابتلاء للمؤمنين". في بعض الأحيان، يكون بقاء الظالم وعدم معاقبته فورًا، اختبارًا للصابرين والمؤمنين. هذا الوضع يضع إيمان الإنسان على المحك ليظهر ما إذا كان سيصبر أمام رؤية الظلم، ويثق بوعد الله، ويبقى ثابتًا على طريق الحق أم لا. رؤية النجاح الظاهري للظالمين وتأخير عقابهم يمكن أن يسبب ضغطًا نفسيًا كبيرًا على المؤمنين. ومع ذلك، فإن الثبات في هذه الظروف يدل على عمق الإيمان والتوكل الحقيقي على الله. هذا الاختبار يرفع درجة صبر ويقين المؤمنين، ويهيئهم لنيل أجور عظيمة في الدنيا والآخرة. وقد أوصى القرآن الكريم المؤمنين مرارًا بالصبر والتوكل على الله في مواجهة الشدائد والظلم. السبب الثالث هو "تراكم الذنوب واستكمال الحجة". أحيانًا، يكون الإمهال الممنوح للظالم لكي تكتمل الحجة عليه، ولا يبقى لديه أي عذر. وهذا يعني أن الله يسمح للظالم بأن يملأ وعاء ذنوبه ويصل إلى أقصى درجات الفساد والطغيان. في هذه الحالة، لن يكون العقاب الإلهي أكثر حسمًا وشدة فحسب، بل سيصبح واضحًا للجميع أن هذا العقاب هو نتيجة مباشرة لأفعال الظالم نفسه، وهو عين العدل. هذا التأخير لا يعني رضا الله عن أفعالهم، بل هو نوع من "الاستدراج"؛ أي أن الظالم يظن أنه قد نجا من العقاب، بينما هو يتقدم خطوة بخطوة نحو مصيره المحتوم. السبب الرابع وربما الأهم هو "العدالة الكاملة في يوم القيامة". الدنيا ليست دار القصاص الكامل. فكثير من الأعمال، سواء كانت صالحة أو سيئة، لا تتمخض عنها نتائجها الكاملة في هذه الحياة. وقد حدد الله تعالى يومًا يسمى "يوم الدين" (يوم الجزاء) سيُحاسب فيه جميع البشر على أعمالهم، ولن يضيع مثقال ذرة من الخير أو الشر دون مكافأة أو عقاب. في ذلك اليوم، حتى حقوق الناس التي أُهدرت في الدنيا سيتم حسابها، وسينال الظالمون عقابهم النهائي. هذه النظرة تمنح المؤمنين الطمأنينة بأنه حتى لو لم يشهدوا العدالة التي يتوقعونها في الدنيا، فإن أي حق لن يضيع وأي ظلم لن يبقى بلا رد في محكمة العدل الإلهية في الآخرة. هذا النظام للعدالة الإلهية يتجاوز الزمان والمكان الدنيويين ويحتاج إلى عالم آخر لتحقيقه بالكامل. خامسًا، "الحكمة الإلهية البالغة". الله هو الحكيم المطلق، وجميع أفعاله وقراراته مبنية على علمه اللانهائي وحكمته العميقة التي يستحيل على البشر المحدودين إدراكها بالكامل. نحن نرى جزءًا صغيرًا فقط من الحقيقة ولا نستطيع فهم جميع أبعاد حدث ما وتداعياته في نظام الكون. قد يكون التأخير في معاقبة ظالم ما في خير وصلاح لآخرين، أو قد يمهد لأحداث أكبر في المستقبل لا نراها في الوقت الحالي. هذه الحكمة الإلهية تضمن أن لا يذهب أي فعل سدى، وأن كل حدث له معنى وهدف في مكانه، حتى لو لم نتمكن من إدراكه. تشمل هذه الحكمة كيفية تأثير الظلم على المجتمع، والدروس التي يجب تعلمها منه، والإصلاحات التدريجية التي قد تنشأ بسببه. أخيرًا، يلعب "نظام السنن الإلهية" دورًا أيضًا. فالعالم يسير وفق سنن وقوانين محددة وضعها الله. تشمل هذه القوانين الطبيعية والاجتماعية والروحية. وتظهر بعض عواقب الأفعال تدريجيًا بمرور الوقت، تمامًا مثل تطور مرض أو انهيار نظام فاسد، الأمر الذي يتطلب وقتًا للوصول إلى ذروته. وقد يكون عقاب الظالمين جزءًا من هذه السنن التدريجية التي لا تؤثر على فرد واحد فحسب، بل على مجتمع بأكمله، مما يؤدي إلى أخذ العبرة للأجيال القادمة. ويوفر هذا النظام فرصة للتطور والاختيار للبشر، ولا يتدخل الله فورًا إلا في ظروف خاصة وللحفاظ على العدالة العامة وإتمام الحجة. لذا، فإن عدم معاقبة الظالمين فورًا ليس علامة على ضعف الله ولا على لامبالاته؛ بل هو مظهر من مظاهر حكمته ورحمته وصبره وعدله الكامل الذي يشمل جميع أبعاد الدنيا والآخرة، ووعده بأن الحق سينتصر في النهاية وسيهلك الظالم.
يُحكى أن ملكًا كان لديه وزير قوي، كان يظلم الناس ظلمًا شديدًا ويستولي على أموالهم بغير حق. عانى الناس كثيرًا من ظلمه، ودعوا الله أن يرفع عنهم هذا البلاء، لكن الوزير كان يزداد قوة وثراءً فيما يبدو. تساءل الكثيرون: هل ستأتي العدالة الإلهية يومًا ما؟ مرت السنوات والوزير مستمر في طغيانه. وفي أحد الأيام، سمع الملك شكاوى لا تحصى ورأى الاضطراب بين رعيته، فقرر أخيرًا التحقيق في شؤون الوزير. اكتشف الملك مدى فساد الوزير وظلمه. وبغضب شديد، جرّد الملك الوزير من كل سلطته وثروته، وألقاه في السجن نفسه الذي أرسل إليه العديد من الأبرياء. فرح الناس العاديون لرؤية سقوط الظالم، وأدركوا أن العدالة، وإن كانت تسير ببطء أحيانًا، فإنها لا تخطئ طريقها أبدًا.