قسوة القلب لدى بعض من يدعون التدين تنبع من فهم سطحي للدين، والاعتماد على المظاهر فقط، وغلبة الأهواء النفسية، لأن جوهر الدين قائم على الرحمة والإحسان، ويتجلى في التعامل مع الخلق.
يتناول السؤال المطروح أحد أكثر التناقضات الظاهرية تحديًا في المجتمع؛ وهو التناقض بين ادعاء التدين وظهور القسوة. للوهلة الأولى، يبدو هذان المفهومان، أي التدين والقسوة، متعارضين تمامًا. وذلك لأن جوهر جميع الأديان السماوية، وخاصة دين الإسلام الحنيف، مبني على الرحمة والشفقة والعدل والإحسان. وقد أكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على هذه المفاهيم، وقدم النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) كأعلى مثال للرحمة للعالمين. فكيف يمكن لشخص أن يدعي التدين، ومع ذلك يكون خاليًا من المودة والشفقة، بل ويظهر قسوة القلب؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في فهم أعمق لمفهوم 'التدين الحقيقي' وتمييزه عن 'التدين الظاهري أو السطحي'. من منظور قرآني، لا يقتصر الإيمان على مجموعة من المعتقدات الذهنية أو أداء الطقوس الظاهرية فحسب. الإيمان الحقيقي هو حالة قلب تتجلى في العمل والسلوك. وقد عرف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بصفة 'الرحمن الرحيم'، ونشر رحمته على كل شيء. كما بعث نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) 'رحمة للعالمين'. وهذا بحد ذاته يشير إلى أن الرحمة هي العمود الفقري للتعاليم الإلهية. ولذلك، فإن التدين بلا رحمة وشفقة يشبه شجرة بلا ثمر؛ لها مظهر جميل، ولكنها خالية من هدفها الأساسي، وهو الإثمار والنفع. أحد الأسباب التي تجعل بعض الأفراد الذين يبدون متدينين قساة، هو عدم فهمهم العميق والصحيح للتعاليم الدينية. بالنسبة لهؤلاء الأفراد، تحول الدين إلى مجموعة من الشعائر والطقوس الجافة والروحانية، بدلاً من أن يكون نظامًا قيميًا شاملاً ومحوَلاً يشكل الأخلاق والسلوك. قد يصلي هؤلاء الأفراد، ويصومون، ويؤدون الحج، لكن الجوهر الأساسي لهذه العبادات - وهو تزكية النفس، وتلطيف الروح، وخلق شعور بالتعاطف مع بني البشر - لم يتطور في داخلهم. يلوم القرآن الكريم في سورة الماعون المصلين الذين هم غافلون عن صلاتهم، ويمنعون حتى المساعدة الصغيرة عن الآخرين. تشير هذه الآيات بوضوح إلى أن مجرد أداء الصلاة لا يضمن التدين الحقيقي، بل ارتباطها بمساعدة المحتاجين واللطف بالخلق هو الذي يمنحها القيمة. سبب آخر هو الوقوع في فخ أهواء النفس، والكبر، وحب الدنيا. عندما يتعلق الإنسان بالمال أو المكانة أو السلطة، فإن هذه التعلقات يمكن أن تقسي قلبه، وتمنعه من رؤية معاناة الآخرين والشعور بالتعاطف معهم. لقد أشار القرآن مرارًا إلى آفة قسوة القلب، واعتبرها نتيجة للذنوب، والإهمال، والغفلة، والابتعاد عن ذكر الله. القلب القاسي لم يعد قادرًا على استقبال النور الإلهي أو التأثر بالآيات والعلامات الإلهية. وقد يستخدم هذا الشخص حتى التعاليم الدينية لتبرير أعماله القاسية، بينما يكون قد ابتعد تمامًا عن الروح الحقيقية للدين. هذا الاستخدام الخاطئ للدين هو من أخطر الانحرافات. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون تدين الفرد ممزوجًا بالرياء والنفاق. المنافق هو من يحسن ظاهر أعماله لجذب إعجاب الناس، بينما باطنه فاسد. يسعى هذا الشخص فقط إلى كسب المكانة الاجتماعية أو المصالح الشخصية، ولا يبتغي مرضاة الله ولا الخلاص الأخروي. أما النفاق فهو حالة يؤمن فيها الفرد ظاهريًا، ولكنه في الباطن كافر أو يعادي الحق. في كلتا الحالتين، الرحمة والعطف، وهما من ثمرات الإيمان الصادق، لا مكان لهما في قلوب هؤلاء الأفراد. تؤكد التعاليم الإسلامية بشدة على 'حقوق الناس'؛ الحقوق التي للإنسان على أخيه الإنسان. ويعتبر انتهاك هذه الحقوق، والظلم والجور، وإظهار القسوة تجاه الضعفاء، من أكبر الذنوب. حتى لو أدى الإنسان جميع عباداته على أكمل وجه، لكنه يظلم الناس، فإن تدينه سيكون ناقصًا ومعيبًا. قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم): 'من لا يرحم الناس لا يرحمه الله.' يشير هذا الحديث الشريف بوضوح إلى أن الرحمة المتبادلة هي أساس لنيل رحمة الله. في الختام، فإن القسوة بين بعض الأفراد الذين يتظاهرون بالتدين، لا تنبع من الدين نفسه، بل من ضعف الإيمان، ونقص في تربية النفس، وتأثيرات بيئية، وميول شخصية لديهم. فدين الإسلام، كدليل كامل للحياة، يدعو البشر باستمرار إلى تزكية النفس، واكتساب الفضائل الأخلاقية، وتجنب الرذائل. الهدف النهائي للدين هو بناء إنسان يتجلى فيه صفات الله، وخاصة الرحمة والمحبة، على الأرض. ولذلك، فإن قسوة القلب أو القسوة، ليست فقط ليست علامة على التدين، بل هي في تناقض تام مع روح الإسلام وحقيقته. هؤلاء الأفراد في الواقع جعلوا الدين أداة لأهدافهم الشخصية وخرجوا عن مسار الهداية الرئيسي. للتغلب على هذه الظاهرة، يجب التركيز على أهمية تزكية النفس، والفهم العميق لتعاليم القرآن، وتأصيل الأخلاق الإسلامية في المجتمعات لكي يتغلغل التدين من مستوى الظاهر إلى أعماق نفوس الأفراد ويتجلى رحمة وإنسانية.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك رجل يبدو متدينًا جدًا في الظاهر. كان يحضر إلى المسجد قبل الجميع كل يوم ويقضي وقتًا طويلاً في العبادة حتى وقت متأخر، وكان دائمًا ما يمسك المسبحة بيده ويذكر الله بلسانه. كان الناس يعتبرونه ناسكًا ورعًا. وفي أحد الأيام، رأى في طريقه طفلاً يتيمًا يرتجف من برد الشتاء، ولا يستر جسده سوى قطعة قماش بالية. نظر الطفل إليه بعيون دامعة، لكن الرجل مرّ مسرعًا وهو يهمس: "الله هو الرازق لجميع خلقه." ورفع رأسه إلى السماء وعاد إلى ذكره. في تلك اللحظة بالذات، وبالصدفة، مر درويش بسيط القلب، لا لحية له ولا ثياب أنيقة. لم يكن يؤدي عبادات طويلة كذاك الرجل، ولا كان مظهره مرتبًا. ولكن عندما وقع بصره على الطفل، توقف على الفور. خلع ردائه الصوفي القديم ولفه بيديه الكريمتين حول جسد الطفل النحيل، واحتضنه ليدفئه. ثم شاركه كل لقمة خبز كانت في جرابه. وما أروع ما قاله سعدي البليغ: "ليس كل من حلق رأسه يعرف الدروشة؛ كمال الدين في المودة لا في التظاهر." تعلمنا هذه الحكاية الدافئة أن التدين الحقيقي يكمن في الرحمة والعطف ومد يد العون للمحتاجين، وليس فقط في مظاهر العبادات والتفاخر بالتدين.