الإيمان الحقيقي يدعو إلى الوحدة والتعاطف. ينشأ البعد بسبب التطرف، الغطرسة، إهمال الأخلاق، أو قلة الحكمة في التعاملات، وليس من جوهر الإيمان نفسه.
إن فهم لماذا يتسبب إيمان بعض الناس، بدلاً من تعزيز القرب، في خلق مسافة مع الآخرين أمر حيوي، لأن الجوهر الأساسي للتعاليم الإلهية في القرآن الكريم مبني على الرحمة والعدل والتعاطف والتلاحم الاجتماعي. يذكر القرآن صراحة أن الدين وسيلة للهداية والإصلاح، ويهدف إلى بناء مجتمع يقوم على المحبة والسلام، لا الفرقة والانقسام. ولذلك، كلما لوحظ أن إيمان شخص ما يؤدي إلى الاغتراب عن المجتمع، فإن السبب الجذري ليس في الإيمان الحقيقي نفسه، بل ينبع من عوامل أخرى، سنفصلها لاحقاً. تتعلق هذه العوامل في المقام الأول بسوء فهم المؤمن أو سوء سلوكه بدلاً من طبيعة الإيمان الحقيقية. أحد أهم الأسباب هو التفسيرات المتطرفة والخاطئة للدين. يدعو القرآن الكريم المسلمين باستمرار إلى الاعتدال والتوازن، كما ورد في سورة البقرة، الآية 143: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ". تشير هذه الآية بوضوح إلى أن الإسلام دين اعتدال يتجنب التطرف. ومع ذلك، فإن بعض الأفراد، بدلاً من استيعاب روح الاعتدال هذه، يتبنون تفسيرات صارمة وقاسية للغاية. قد يركزون فقط على الأشكال الخارجية للشريعة ويهملون روح اللطف والتسامح والمرونة التي تعد من الخصائص الأساسية للدين الإسلامي. يمكن أن يؤدي هذا النوع من التطرف إلى أحكام قاسية على الآخرين، أو تكفيرهم أو التقليل من شأن من لديهم وجهات نظر أو أنماط حياة مختلفة، مما يؤدي في النهاية إلى إنشاء حواجز غير مرئية بينهم وبين المجتمع. لا يتوافق هذا السلوك مع تعاليم القرآن فحسب، بل يتعارض أيضاً مع الهدف الأساسي للدين في تعزيز المودة والأخوة. سبب آخر هو الغطرسة والكبر الناجمان عن فهم خاطئ للتقوى. يدين القرآن بشدة الكبر والعُجب بالنفس. فقد طُرد إبليس من حضرة الله بسبب كبره. في سورة لقمان، الآية 18، نقرأ: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". يجب أن يؤدي الإيمان الحقيقي إلى التواضع والبساطة، وليس إلى الشعور بالسيادة. عندما يشعر الفرد، بسبب إيمانه، بأنه أسمى من الآخرين، أو يعتقد أنه وحده يمتلك الخلاص وينظر إلى الآخرين بازدراء، فإنه يخلق عن غير قصد جواً من النفور والبعد. إن هذا الشعور بالتفوق يشكل عائقاً كبيراً أمام العلاقات الصحية والصادقة مع الآخرين، لأن أساس التفاعل البشري مبني على الاحترام المتبادل. علاوة على ذلك، فإن إهمال الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية للإيمان والتركيز فقط على الطقوس يمكن أن يكون عاملاً مساهماً رئيسياً. فالإسلام ليس مجرد مجموعة من العبادات الفردية مثل الصلاة والصيام؛ بل يؤكد بنفس القدر على الأخلاق الحميدة (الأخلاق) والتفاعلات الاجتماعية (المعاملات). يزخر القرآن والسنة النبوية بأوامر تعلمنا كيف نعامل الأسرة والجيران والفقراء وحتى غير المسلمين بلطف وعدل وأدب. في سورة النحل، الآية 90، ورد: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ". قد يكون بعض الأفراد مجتهدين للغاية في أداء العبادات الفردية ولكنهم يهملون الالتزام بالمبادئ الأخلاقية مثل الصدق والتعاطف والتسامح والمودة في تفاعلاتهم اليومية. هذا التناقض بين ادعاء الإيمان والسلوك الاجتماعي يجعل الآخرين يبتعدون، لأن الناس يلاحظون الأفعال أكثر من الكلمات. بالإضافة إلى ذلك، فإن نقص الحكمة في دعوة الآخرين إلى الله (الدعوة إلى الله) يمكن أن يؤدي أيضاً إلى البعد. يقول القرآن في سورة النحل، الآية 125: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". تشير هذه الآية إلى أن طريقة الدعوة إلى الدين يجب أن تقوم على الحكمة واللطف والاحترام، لا الإكراه أو الحكم أو اللغة القاسية. إذا روَّج المؤمن لإيمانه بنبرة قاسية أو متغطرسة، أو دون مراعاة الحالة العاطفية والفكرية للجمهور، فإنه لن يفشل في جذب أي شخص فحسب، بل سيتسبب أيضاً في النفور والاغتراب. فهدف الدعوة هو الهداية لا الرفض. يجب أن يكون المؤمن الحقيقي مرآة تعكس رحمة الدين وجماله، فيجذب الآخرين نحو نفسه ثم نحو القيم الإلهية. ختاماً، يمكننا الاستنتاج أن الإيمان في حد ذاته ليس سبباً للانفصال؛ بل هو سوء الفهم، أو سوء التطبيق، أو النواقص الشخصية لدى المؤمن التي تؤدي إلى هذه الظاهرة. فالإيمان الحقيقي، المستمد من القرآن الكريم وسنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، يهدف باستمرار إلى بناء جسور التواصل، ونشر المحبة، وخدمة الإنسانية. فالمؤمن الصادق لا ينجح في عباداته الفردية فحسب، بل يمثل أيضاً مثالاً يحتذى به في الأخلاق الحسنة والتواضع وخدمة المجتمع. ولهذا قال نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم): "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً". يوضح هذا الحديث الشريف بوضوح أن كمال الإيمان يكمن في كمال الأخلاق والتفاعل البناء مع الآخرين، ومثل هذا الإيمان لن يؤدي أبداً إلى البعد، بل سيعزز القرب والمودة.
يُروى في بستان سعدي أن ملكاً رأى عابداً اعتزل الناس وانهمك في العبادة. قال الملك: "ما فائدة هذه العزلة، وأنت دائماً حبيس الوحدة وبعيد عن الناس؟ الأخيار لا ينجون أنفسهم فحسب، بل يهدون الآخرين إلى الصراط المستقيم ويؤلفون بينهم." أجاب العابد: "إني أستعيذ بالله من شر الخلق." فقال الملك: "إذا ابتعدت عن الخلق، فكيف تؤدي حق الجوار والأخوة، وكيف تمد يد العون للمحتاجين؟ الدين الحقيقي هو أن تكون بين الناس، بالصبر والأخلاق الحسنة." بهذه الكلمات، أوضح الملك للعابد أن الإيمان الحقيقي يقرب المرء من الناس لا يبعده عنهم، وأن مد يد العون للآخرين هو في حد ذاته عبادة عظيمة.