الغفران الحقيقي في الإسلام له جانبان: الغفران المطلق من الله، والغفران بين البشر. غفران البشر لبعضهم البعض هو وسيلة لنيل الغفران الإلهي، لكن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب تماماً.
إن تناول موضوع الغفران في الإسلام، لا سيما من منظور القرآن الكريم، يفتح نافذة على فهم عميق للرحمة الإلهية والمسؤولية البشرية. والسؤال: "هل الغفران الحقيقي هو عمل الله وحده؟" يتطلب تفصيلاً وتوضيحًا. والإجابة الصريحة والقطعية من منظور القرآن هي: لا، ليس الغفران الحقيقي عمل الله وحده، بل يشمل جانبين رئيسيين: الغفران الإلهي والغفران البشري. ولكل من هذين الجانبين مكانته وأهميته الخاصة، وهما مكملان لبعضهما البعض. يصف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بصفات لا مثيل لها مثل "الغفور" (كثير المغفرة)، و"الغفار" (الساتر للذنوب)، و"التواب" (الذي يقبل التوبة كثيراً)، و"الرحيم" (كثير الرحمة). هذه الأسماء والصفات توضح بجلاء أن مغفرة الذنوب والخطايا للعباد في النهاية وبشكل مطلق هي من عند الله. فهو الذي يغفر الذنوب الكبيرة والصغيرة، شريطة أن يطلب العباد المغفرة بتوبة نصوح وعودة حقيقية إليه. وتصف الآية 53 من سورة الزمر هذا المعنى بجمال: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"؛ قل: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تيأسوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم. هذه الآية تضيء شمعة الأمل في قلب كل مذنب وتظهر أن باب العودة إلى الله مفتوح دائمًا. إن الغفران الإلهي واسع لا حدود له، ولا يوجد ذنب عظيم لدرجة أن الله لا يستطيع أن يغفره، باستثناء الشرك به إذا لم يتب العبد منه قبل موته، كما جاء في الآية 116 من سورة النساء: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا"؛ إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً. أما الجانب الآخر من الغفران الذي شدد عليه القرآن كثيراً، فهو "الغفران البشري". هذا الغفران يعني عفو الناس عن حقهم في مقابل الظلم أو الخطأ الذي ارتكبه الآخرون بحقهم. يشجع القرآن المؤمنين على العفو والصفح. فالعفو يعني التجاوز عن الخطأ، والصفح يعني الإعراض عنه وتجاهله. هذا النوع من الغفران ليس فقط علامة على النبل وكرم النفس، بل هو أيضاً وسيلة لجلب الرحمة والمغفرة الإلهية. تصف الآية 22 من سورة النور هذا الارتباط بجمال: "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"؛ وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ والله غفور رحيم. هذه الآية توضح جلياً أنه إذا كان العباد يتوقعون أن يتجاوز الله عن ذنوبهم، فعليهم هم أيضاً أن يتجاوزوا عن أخطاء الآخرين. هذه معادلة إلهية تبين أن الغفران البشري هو مفتاح فتح أبواب الغفران الإلهي. وكذلك، نقرأ في الآية 40 من سورة الشورى: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"؛ وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، إنه لا يحب الظالمين. هذه الآية تعد بمكافأة عظيمة لمن يعفون ويصلحون، وتجعل أجرهم على عاتق الله. هذا يدل على أن الغفران البشري عمل فضيل للغاية ومقدَّر عند الله. لذلك، يشمل الغفران الحقيقي في الإسلام كلا البعدين. غفران الله مطلق، وغير مشروط (بعد التوبة)، ويشمل ذنوب العبد تجاه الله. أما غفران الإنسان، فهو نسبي ويتعلق بالحقوق التي للآخرين عليه. هذا النوع من الغفران لا يؤدي فقط إلى تطهير القلوب وإحلال السلام والوئام في المجتمع، بل هو أيضاً طريق للوصول إلى الغفران والمغفرة الإلهية. عندما يتجاوز الإنسان، على الرغم من قدرته على الانتقام أو القصاص، عن حقه ويغفر للطرف الآخر، فإنه في الحقيقة يجسد صفة من صفات الله في ذاته، والله بدوره يمنحه من فضله وكرمه. هذا العمل يدل على التقوى والإيمان ونبل الروح. في الواقع، الإنسان عندما يغفر للآخرين، فإنه يهيئ نفسه لتلقي غفران أكبر من الله. هذا الفهم الشامل للغفران لا يمنح الإنسان السكينة الروحية فحسب، بل يدفع المجتمع نحو التضامن والتعاطف. لقد جعل الله الإنسان خليفته على الأرض ويطلب منه أن يظهر الصفات الإلهية في نفسه، وصفة العفو والغفران هي من أجمل هذه الصفات. إذن، الغفران الحقيقي هو عمل إلهي مطلق، وهو أيضاً فضيلة عالية وعمل مؤثر من جانب الإنسان يؤدي في النهاية إلى الغفران والرحمة الإلهية. هذان الجانبان من الغفران يشكلان حقاً نسيج مفهوم المغفرة في الإسلام وهما متلازمان.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك ملك عادل وحكيم يحكم بلادًا مزدهرة. ذات يوم، ارتكب أحد تابعيه خطأً جسيمًا يستوجب عقابًا شديدًا. ألح المستشارون على الملك أن ينفذ فيه العقاب الذي يستحقه. لكن الملك، الذي كان قلبه مليئًا بالرحمة، تأمل لحظة وقال: "إن عاملته بقسوة، فما الفرق بيني وبين الظالمين؟ وإن عفوت عنه، فربما يكون هذا العفو سبيلاً لأن يتجاوز الله عن أخطائي." وهكذا، بكرمه المعهود، عفا عنه ومنحه فرصة أخرى. انحنى الرجل خجلاً وامتنانًا، ومنذ ذلك اليوم، أصبح بوفاء وجهد لا حدود له، من أفضل خدام الملك. أدرك الملك أن العفو لا يطهر قلب المخطئ فحسب، بل يزيد من عظمة العافي، ويفتح طريقًا لرحمة الله الواسعة.