يؤكد القرآن على الاعتدال واليسر في الدين لا التشدد. إن التشدد الملاحظ في بعض المؤمنين غالباً ما ينبع من سوء الفهم، أو التأثيرات البيئية، أو الخوف المفرط من الذنب، مما يتعارض مع روح الإسلام القائمة على الرحمة والتيسير.
إن ملاحظة ما قد يراه البعض "تشددًا" بين بعض المؤمنين هي مسألة تشغل أذهان الكثيرين، بمن فيهم المسلمون أنفسهم. يمكن أن يظهر هذا التشدد في تطبيق الأحكام الدينية، أو في التفاعلات مع الآخرين، أو في النظرة العامة للأمور الدنيوية والروحية. لفهم هذه الظاهرة من منظور القرآن الكريم، لا بد من الخوض في المبادئ والأسس الجوهرية التي يرسمها هذا الكتاب السماوي لنمط حياة المؤمن. فالقرآن لم يدعو قط إلى التشدد غير المبرر أو المفرط في الدين، بل أكد باستمرار على مسار الاعتدال واليسر والرحمة. أولاً، يصف القرآن الكريم الأمة الإسلامية بأنها "أمة وسط". في سورة البقرة، الآية 143، يقول الله تعالى: «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً). هذه الآية تشير بوضوح إلى أن الإسلام مبني على الاعتدال والتوازن؛ فلا إفراط في العبادة والرياضات الشاقة، ولا تفريط وإهمال للأحكام الإلهية. هذه "الوسطية" تعني الابتعاد عن أي شكل من أشكال التطرف أو التهاون، وتقديم نموذج لحياة متوازنة وإنسانية تُراعى فيها حقوق الله والنفس والآخرين. يتخلل مفهوم الوسطية هذا جميع جوانب حياة المؤمن الفردية والجماعية؛ بدءًا من اختيار كيفية العبادة وصولاً إلى كسب الرزق، ومن العلاقات الأسرية إلى المشاركات الاجتماعية. فالمؤمن الحقيقي هو من يتبع دائمًا طريق التوازن، ويتجنب الانحراف نحو أي من قطبي الإفراط أو التفريط، لأن هذا الاعتدال يضمن الاستقرار والنمو الروحي والأخلاقي السليم، ويحول دون الإحباط أو الغرور. مبدأ آخر أساسي تم التعبير عنه بوضوح في القرآن هو "اليسر" أو التسهيل في الدين. يعلن الله تعالى في سورة البقرة، الآية 185: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). هذه الآية، والآيات المشابهة لها، تؤكد بوضوح حقيقة أن الغرض من الشريعة الإلهية هو تسهيل حياة البشر وإرشاد الأفراد نحو الرفاه والسعادة، لا فرض الصعوبات غير الضرورية. لقد أنزل دين الإسلام بما يتوافق مع الفطرة البشرية، ولا يوجد في أي من تعاليمه عبء يتجاوز القدرة البشرية. في الواقع، في ظروف محددة مثل المرض أو السفر، يتم تخفيف الأحكام الدينية لمنع المشقة غير المبررة. وهذا يدل على أن أي "تشدد" يفرضه المؤمنون أنفسهم، مما يؤدي إلى صعوبة غير ضرورية، لا يمكن أن ينبع حقاً من تعاليم القرآن الأصيلة. فمثل هذه الصرامة المفروضة ذاتياً غالباً ما تتعارض مع روح العطاء الإلهي واليسر، مما يضل الأفراد ويجعلهم يعتقدون أن المشقة هي جزء من التقوى. يعلم هذا المبدأ المؤمنين أن يسعوا دائمًا إلى الراحة والبساطة في أداء العبادات والفرائض، بدلاً من إرهاق أنفسهم أو التشدد على الآخرين. هذه الروح من اليسر، خاصة في مواجهة قصور الآخرين، تأمر بالتسامح والعفو، ليبقى باب الدين واسعاً ومتاحاً للجميع. علاوة على ذلك، ينهى القرآن صراحة عن "الغلو"، أو التطرف في الدين. في سورة النساء، الآية 171، مخاطباً أهل الكتاب، يقول: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق). هذا النهي عن الغلو هو تحذير عام ينطبق على أتباع جميع الأديان، وعلى المسلمين أن يتعلموا منه. "الغلو" يعني المبالغة وتجاوز الحدود التي وضعها الله، سواء في العقائد (مثل رفع مكانة المخلوق إلى مرتبة الخالق) أو في الممارسات (مثل وضع قواعد وقيود ذاتية لم يشدد عليها الدين). عندما يفرض بعض المؤمنين على أنفسهم أو على الآخرين تشدداً أكثر مما تقتضيه الشريعة، فإنهم يقعون عن غير قصد في فخ "الغلو". وينتج هذا الانحراف غالباً عن فهم غير كافٍ للحكمة والرحمة الإلهية، مما يؤدي إلى نظرة مشوهة للممارسة الدينية. يمكن أن يؤدي هذا التطرف إلى نفور الناس من الدين واشمئزازهم منه، حيث يصوّر الإيمان كعبء لا يمكن تحمله ولا يمكن الوصول إليه. وقد أثبت التاريخ باستمرار أن التطرف الديني يؤدي حتماً إلى انحرافات فكرية وعملية، مما يشوه طريق الهداية الحقيقي. إن سيرة وسلوك النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي كان تجسيداً كاملاً لتعاليم القرآن، يشهدان بوضوح على مبادئ الرحمة واللين واليسر. يصف القرآن النبي بأنه "رحمة للعالمين" (سورة الأنبياء، الآية 107). وفي سورة آل عمران، الآية 159، يقول: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك). توضح هذه الآيات أن النبي (صلى الله عليه وسلم) حتى في تعامله مع المعارضين وفي سياق الدعوة إلى الإسلام، كان يتصرف بلطف ورقة، فكيف به في تعامله مع المؤمنين وعامة الناس. وتؤكد العديد من الأحاديث النبوية أيضاً هذا المبدأ: "يسروا ولا تعسروا" و "بعثت بالحنيفية السمحة". كان هذا النهج رمزاً لكماله الأخلاقي وبصيرته العميقة، فقد كان يعلم أن القلوب تُفتح بالمحبة والحكمة، لا بالقوة أو الإكراه. وكانت حياته مثالاً كاملاً لحياة متوازنة، حيث كانت حقوق الله وحقوق البشر تُراعى بأفضل طريقة ممكنة. فلماذا، بالرغم من هذه التعاليم القرآنية والنبوية المؤكدة، يظهر بعض المؤمنين متشددين؟ تعود هذه الظاهرة إلى عدة أسباب يمكن أن تُعزى بشكل كبير إلى فهم خاطئ أو غير مكتمل للمبادئ الدينية: أولاً، سوء التفسير أو الفهم السطحي للنصوص الدينية: قد يركز بعض الأفراد فقط على المعنى الحرفي للآية أو الحديث، متجاهلين الروح العامة للشريعة، ومقاصدها العليا (مقاصد الشريعة)، والسياق التاريخي والاجتماعي للوحي. وهذا النوع من النظرة الضيقة، دون الأخذ في الاعتبار الحكمة والفلسفة الكامنة وراء الأحكام، يمكن أن يؤدي إلى تفسيرات جامدة ومتشددة. وقد ينسون أن الغرض النهائي للدين هو خلاص الإنسان وإصلاح المجتمع، وليس مجرد الالتزام الجاف بالظواهر دون فهم عمق المعاني. وقد تقع هذه الفئة في فخ "الظاهرية"، مهملين "جواهر" الدين. ثانياً، التأثير التربوي والبيئي: يمكن أن يؤثر الخلفية العائلية، وطبيعة التعليم الديني الذي تلقاه الفرد، ونماذج القدوه التي صادفها منذ الطفولة، بشكل كبير في تشكيل شخصيته ونهجه للدين. إذا نشأ شخص في بيئة تؤكد على التشدد المفرط والقيود الزائدة، فمن المرجح أن يتبنى نهجاً مشابهاً، ويعتبره جوهر التدين. ويمكن لهذه التأثيرات الثقافية والاجتماعية أن تكون عميقة جداً لدرجة أنها تشوه فهم الفرد للمبادئ الدينية الحقيقية، وتبعده عن مسار الاعتدال. ويمكن أن تنتقل هذه الدائرة من جيل إلى جيل، ما لم يتم تصحيحها بالوعي والبصيرة. ثالثاً، الخوف من الذنب والانحراف: في بعض الأحيان، يتبنى المؤمن، بدافع الحذر والخوف من الوقوع في الخطيئة، نهجاً متشدداً بشكل مفرط. وبينما ينبع هذا الخوف من شعور بالواجب، فإنه إذا لم يقترن بالحكمة والمعرفة، يمكن أن يؤدي إلى الوسوسة وفرض مشقات غير ضرورية على نفسه وعلى الآخرين. فالله يقبل التوبة ويترك الباب مفتوحاً دائماً لعباده، مشجعاً على الأمل لا اليأس. قد يؤدي هذا الخوف غير المنطقي من الذنب، بدلاً من تقريب الإنسان إلى الله، إلى إبعاده عن الحياة الطبيعية والملذات الحلال، ويجعله يعاني من القلق والاكتئاب، في حين أن الدين جاء لسلام القلب وطمأنينته. رابعاً، التركيز على المظاهر الخارجية وإهمال الجوهر الداخلي: قد يركز بعض المؤمنين بشكل مفرط على أداء الطقوس شكلياً والالتزام الصارم بالشكليات الدينية الخارجية، مهملين الأبعاد الداخلية والأخلاقية للإيمان مثل اللطف، والتسامح، والرحمة، وخدمة الإنسانية. فالهدف الأساسي للدين هو تزكية النفس وتحقيق الكمال الإنساني، والذي لا يمكن تحقيقه بمجرد الالتزام الظاهري. إن الإيمان الحقيقي، بالإضافة إلى الالتزام بالفروع، يتطلب تصفية الداخل، واللين مع الخلق، وحسن الخلق. عندما يختل هذا التوازن، قد يبدو الفرد متديناً ظاهرياً، لكنه يكون قاسياً من الداخل ويفتقر إلى جوهر الروحانية. في الختام، يجب التأكيد على أن التشدد المفرط وغير المنطقي ليس فقط غير متوافق مع روح الإسلام، بل يمكن أن يعيق الآخرين عن اعتناق الإيمان وقد يسبب اليأس والإحباط بين المؤمنين أنفسهم. فطريق الدعوة إلى الله ودينه هو ما ورد في سورة النحل، الآية 125: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن). هذه الآية توفر خارطة طريق لكل مؤمن يرغب في تقديم نموذج للتدين – طريق يقوم على الحكمة واللطف والاحترام والبعد عن أي شكل من أشكال القسوة أو الإكراه. لذلك، وعلى الرغم من أن ملاحظة بعض السلوكيات المتشددة بين المؤمنين هي حقيقة واقعة، إلا أن هذه السلوكيات لا تمثل الروح الشاملة لتعاليم القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. بل هي ناتجة بشكل أكبر عن فهم غير كامل أو أخطاء فردية في فهم الدين وتطبيقه. الإسلام الحقيقي هو دين الرحمة والتوازن واليسر الذي يرسم طريق النمو والكمال باللطف والحكمة.
ذات يوم في مدينة نائية، عاش رجل زاهد اشتهر بتشدده في الدين. كلما رأى شخصاً اعتبره منحرفاً قليلاً عن طريق الشريعة، بادر بتوبيخه بكلمات قاسية ووجه عابس. فقال له حكيمٌ عاقل كان يعلم حاله: 'يا صديقي، رأيت يوماً في بستان جميل وردةً فواحةً تدلي رأسها. فسألتها: 'لم أنتِ هكذا؟' أجابت الوردة: 'أخشى الشمس الحارقة وغلظة البستاني، لئلا يكسر أغصاني بعنف. أفضل أن أنمو بلطف قطرات الندى.' وتابع الحكيم: 'وهكذا قلوب البشر؛ تزدهر باللين واللطف، لا بالشدة والقسوة. ونبينا أيضاً كان ليناً بفضل رحمة من الله.' فوعى الرجل الزاهد هذه الكلمات واتخذ سبيل المداراة والحكمة، وأدرك أن الدين هو سبيل للسلام والمحبة، لا للعنف والتفرقة.