لماذا يشعر الإنسان بعدم الرضا رغم توافر كل الإمكانيات؟

ينبع عدم رضا الإنسان من طبيعته الهلوعة والمولعة بالمزيد، ويتفاقم بالتعلق بالحياة الدنيا والغفلة عن ذكر الله؛ ولا يتحقق الرضا الحقيقي إلا بذكر الله وشكره.

إجابة القرآن

لماذا يشعر الإنسان بعدم الرضا رغم توافر كل الإمكانيات؟

إن السؤال العميق حول سبب شعور الإنسان بعدم الرضا على الرغم من توفر الإمكانيات الهائلة والتقدم الملحوظ، يجد جذوره القوية في الرؤية القرآنية والعقيدة الإسلامية. فالقرآن الكريم، بتبصره العميق في خلق الإنسان وطبيعته، يوضح بجلاء أسباب هذه الظاهرة المنتشرة. إن هذا الشعور بعدم الرضا ليس مجرد ضعف شخصي، بل هو علامة على فطرة الإنسان الباحثة، وأحيانًا نتيجة سوء فهمه للهدف الأساسي من الخلق والمعنى الحقيقي للسعادة. فالإنسان بفطرته يميل إلى الكمال، وإذا لم يوجه هذا السعي نحو الكمال المطلق (الله سبحانه وتعالى)، فإنه يضل طريقه في حدود الدنيا المحدودة، ولا يجد شيئًا يرضيه بشكل كامل، لأن كل إنجاز لا يعدو كونه نقطة انطلاق لرغبة أكبر تليها. أحد الأسباب الرئيسية لعدم الرضا هذا، يعود إلى فطرة الإنسان نفسه، كما أشارت إليه آيات متعددة في القرآن الكريم. يقول الله تعالى في سورة المعارج، الآيات 19-20: «إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾». كلمة «هلوع» تعني شديد الحرص، قليل الصبر، سريع التأثر، والطمع الشديد. هذه الخصيصة الكامنة في البشر تدفعه نحو الرغبة في «المزيد»، دون أن يرضى بما لديه. هذا الحرص، في جوهره، يمكن أن يكون محركًا للتقدم، ولكن إذا لم يوجه وفق الهداية الإلهية والفطرة السليمة، فإنه يتحول إلى مصدر رئيسي للقلق وعدم القناعة. فالإنسان، على الرغم من تحقيقه لأمانيه، فإنه بسبب هذه الطبيعة «الهلوعة»، يطمح فورًا إلى أماني أكبر وأكثر صعوبة، وهذه الدورة لا تتوقف أبدًا. هذا السعي المتواصل، بدلاً من الاستمتاع بما يملكه، يؤدي إلى الحسرة على ما يفتقده، وفي النهاية، إلى شعور دائم بعدم الرضا. وهذا الجشع الذي لا يشبع هو جانب أساسي من الحالة البشرية التي يتناولها القرآن بشكل مباشر. يشير القرآن أيضًا إلى طمع الإنسان في الماديات وجمع الثروات. في سورة التكاثر، الآيات 1 و2، جاء: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴿١﴾ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴿٢﴾». هذه الآيات توضح بجلاء أن الانشغال المفرط بجمع الأموال والأولاد وكل ما يمثل فخرًا في الدنيا، يلهي الإنسان عن الهدف الأساسي من الحياة، ويجعله يغرق في دوامة لا نهائية من السنايا حتى لحظة الموت. هذا «التكاثر» أو طلب الزيادة، لا نهاية له؛ فكلما حصل الإنسان على شيء، ازداد شغفه للحصول على المزيد. وبالتالي، فإن امتلاك المزيد من الإمكانيات لا يجلب الرضا، بل يعزز الحسرة على ما يفتقده والوصول إلى مستويات أعلى. هذه الدائرة المفرغة هي أساس العديد من مشاعر عدم الرضا؛ لأنها تشترط السعادة والسلام بأمور لا تتحقق بالكامل أبدًا، ودائمًا ما تتغير وتتطور. إن متعة المكاسب المادية سرعان ما تتلاشى، تاركة وراءها فراغًا لا يمكن أن يملأه أي قدر من الثروة أو المكانة. هذا السعي المتواصل غالبًا ما يؤدي إلى مقارنة المرء نفسه بالآخرين، مما يولد الحسد والشعور الدائم بالنقص، حتى لأولئك الذين يعتبرون أثرياء بمعايير الدنيا. سبب آخر رئيسي لعدم الرضا هو عدم معرفة الهدف الحقيقي من الخلق. يقول الله تعالى في سورة الذاريات، الآية 56: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ». العبادة هنا لا تعني فقط الصلاة والصوم، بل تشمل معرفة الله، وطاعة أوامره، والعيش وفق رضاه، ووضعه محورًا لجميع الأنشطة. عندما يغفل الإنسان عن هذا الهدف السامي لوجوده، ويكرس كل جهده وطموحه لأهداف مادية ودنيوية زائلة، فإنه يعاني من فراغ روحي. هذا الفراغ لا يمكن ملؤه بأي إمكانيات مادية، ويؤدي حتمًا إلى عدم رضا عميق. قلب الإنسان هو موطن معرفة الله ومحبته، وكلما بقي هذا الموطن فارغًا أو شغل بغيره، سُلبت منه السكينة الحقيقية. يتجلى هذا الفراغ الروحي في الشعور بالضياع، وفقدان المعنى، والشعور المستمر بأن شيئًا حيويًا مفقودًا، مهما بلغ المرء من نجاح مادي. هذا الضياع في الهدف يتسبب في غرق الإنسان في بحر من الماديات بينما روحه متعطشة لحقيقة الحياة. يصف القرآن الكريم الدنيا ومادياتها بأنها «مَتَاعُ الْغُرُورِ» (متاع الغرور). في سورة الحديد، الآية 20، يقول الله: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۚ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ». هذه الآية تقدم صورة واضحة جدًا لطبيعة الدنيا الزائلة والمخادعة. يتصور الإنسان أنه بتحقيق هذه الجماليات والمفاخر سيصل إلى السلام، لكن الحقيقة أن هذه الملذات سطحية ومؤقتة، وبعد فترة وجيزة، تذبل وتصبح بلا أثر، مثل النبات الذي يجف. هذا عدم الاستقرار والتقلب هو مصدر الشعور بالقلق وعدم الرضا. كلما تعلق الإنسان بهذه المتع الخادعة، ازداد الفراغ الداخلي لديه عمقًا، ويغرقه في الحسرة على الوصول إلى ما لا يمكنه امتلاكه بالكامل أبدًا. تصل ذروة عدم الرضا هذه في القرآن إلى البعد عن «ذكر الله» (ياد خدا) والروحانية. في سورة طه، الآية 124، يقول الله: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ». «معيشة ضنكًا» تعني حياة صعبة، ضيقة، مصحوبة بضغط نفسي وعدم رضا داخلي. هذا الضيق الروحي والمعيشي لا يعني بالضرورة الفقر المادي، بل يعني عدم السكينة الروحية والقلق والاضطراب الداخلي، حتى لو كان الشخص من أغنى الناس وأكثرهم إمكانيات. فذكر الله والاتصال بمنشأ الوجود هو الطريق الوحيد لتحقيق السلام الحقيقي، والغفلة عن ذلك تؤدي إلى القلق وعدم الرضا. وهذا الوضع يظهر أن السعادة الحقيقية تتوقف على الاتصال الروحي بالخالق، وبدونه، تكون جميع ملذات الدنيا فارغة وبلا معنى. في المقابل لهذه الأسباب المؤدية إلى عدم الرضا، يقدم القرآن حلولاً لتحقيق الرضا والسكينة الحقيقيين. أهمها «ذكر الله». ففي سورة الرعد، الآية 28، نقرأ: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ». هذه الآية توضح بجلاء أن السبيل الوحيد لتحقيق السلام الدائم والرضا القلبي هو الاتصال بمنبع الوجود وذكر الله باستمرار. عندما يطهر الإنسان قلبه بذكر الله وينظم حياته وفق رضاه، فإنه لا يصبح أسيرًا لتقلبات الدنيا أو لوسوسة الرغبة في «المزيد». يصل إلى قناعة بأن ما لديه هو من فضل الله، وما يفتقده ففيه خير له حتمًا، ويرضى بقضاء الله. علاوة على ذلك، فإن الشكر والامتنان لنعم الله عامل مهم آخر في كسب الرضا. في سورة إبراهيم، الآية 7، يقول الله: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ». الشكر لا يؤدي فقط إلى زيادة النعم، بل يغير نظرة الإنسان للحياة، ويدفعه من التركيز على النواقص إلى التركيز على النعم الموجودة. هذا التغيير في النظرة هو بحد ذاته مصدر عظيم للسكينة والرضا الداخلي، ويساعد الإنسان على فهم القيمة الحقيقية لما يملكه والاستمتاع به. في الختام، يمكن القول إن عدم رضا الإنسان على الرغم من جميع الإمكانيات المتاحة، هو نتيجة الابتعاد عن الفطرة الإلهية، وعدم معرفة الهدف الأساسي من الخلق، والتعلق المفرط بالماديات الفانية، والغفلة عن ذكر الله ورضاه. إن السلام والرضا الحقيقيين يكمنان في القلب السليم المتصل بمنبع الوجود، لا في كثرة الإمكانيات المادية. هذه هي النقطة التي أشار إليها القرآن مرارًا وتكرارًا، معتبرًا القرب من الله والرضا الداخلي هو طريق السعادة الحقيقية. فالبشرية الحديثة، بكل تقدمها، لا تزال تتوق إلى السلام والرضا اللذين لا يمكن تحقيقهما إلا بالعودة إلى الروحانية والاتصال بالله. يجب على المرء أن يقبل أن السعادة الحقيقية ليست في «امتلاك المزيد»، بل في «كونه أكثر» و «الاقتراب أكثر من الحقيقة». هذا المسار هو الذي وضعه القرآن الكريم بوضوح أمام البشرية، لكي تتمكن من التخلص من هذا الشوق اللامتناهي وتحقيق سلام دائم.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى أن ملكاً كان غنياً وقوياً، لكنه كان دائماً يشعر بعدم الرضا، وكأنه لا يشبع أبداً. كلما امتلك شيئاً، أراد المزيد. ذات يوم، كان جالساً في شرفة قصره، يراقب الناس وهم منهمكون في السوق. فجأة، وقع بصره على درويش يرتدي ثياباً بالية، ووجهه مبتسم، يجلس في زاوية ويأكل قطعة خبز جافة ويشكر الله. استغرب الملك ونادى الدرويش. سأله: «أيها الدرويش، أراك لا تملك مالاً ولا جاهاً، ولكن في وجهك سكينة لا أملكها أنا رغم كل ثروتي وسلطاني. ما سرك؟» ابتسم الدرويش وقال: «أيها الملك، أنا لا أحتاج شيئاً سوى ما أملك، وقلبي راضٍ بما لدي. أما أنت، فكلما ازداد ما تملك، ازداد قلقك من فقده، وتتوق إلى ما لا تملكه. أنت ملك ما تفتقر إليه، وأنا ملك قناعتي. سلامي يكمن في استغنائي عن الدنيا، وقلقك ينبع من حاجتك اللامتناهية إليها.» أدرك الملك من كلام الدرويش أن الرضا الحقيقي ليس في كثرة الإمكانيات، بل في قناعة القلب وغنى الروح.

الأسئلة ذات الصلة