تبقى المحبة أحيانًا بلا رد لأن النية الأساسية في إظهار المحبة يجب أن تكون لوجه الله، لا انتظار جزاء من الناس. يمكن أن تكون هذه التجربة اختبارًا إلهيًا لقياس إخلاصنا وصبرنا، حيث الثواب الحقيقي عند الله في الآخرة.
إن سؤال لماذا تبقى المحبة أحيانًا بلا رد هو أحد أعمق المخاوف البشرية وأحيانًا أكثرها إيلامًا. يمكن أن تؤدي هذه التجربة إلى الشعور باليأس وكسر القلب وحتى الشك في قيمة الأعمال الصالحة. من منظور القرآن الكريم، لم يتم تناول هذا الموضوع مباشرة بمصطلح "المحبة بلا رد"، ولكن يمكننا، بالاستناد إلى المبادئ القرآنية الأساسية والحكمة الإلهية، استخلاص الأسباب والمناهج المؤمنة للتعامل مع هذه الظاهرة. يقدم القرآن نظرة شاملة للحياة، ويرى كل حدث في إطار المشيئة الإلهية، واختبارًا للإنسان، وفرصة للنمو والتقرب من الله. في الواقع، يمكن أن تكون هذه التجربة نقطة تحول في المسار الروحي للإنسان، وتدفعه إلى إعادة تقييم دوافعه وأهدافه. من أسمى تعاليم القرآن في مواجهة عدم استجابة الآخرين للإحسان والمحبة هو مفهوم "الإخلاص". يؤكد القرآن بشدة على أن كل عمل، بما في ذلك إظهار المحبة والإحسان للآخرين، يجب أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، وليس بقصد الحصول على مكافأة أو شكر أو رد للمحبة من البشر. في سورة الإنسان، الآيات 8 و 9، يتم التعبير عن هذا المبدأ بجمال: "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا." تُظهر هذه الآيات بوضوح أن المؤمنين الصادقين، حتى مع حاجتهم ورغبتهم في مالهم، يتصدقون به على المحتاجين، ونيتهم الوحيدة هي وجه الله، ولا يتوقعون أي جزاء أو شكر من الناس. عندما يكون دافعنا في إظهار المحبة والقيام بالخير خالصًا لله، فإن غياب الرد أو التقدير من البشر لا يقلل من قيمة عملنا عند الله، بل قد يزيده ثقلاً في ميزان الحسنات، لأنه خالٍ من أي شائبة رياء أو طمع دنيوي. يمنح هذا المنظور الإنسان سلامًا داخليًا عميقًا ويحرره من قيود التوقعات البشرية؛ سلام ينبع من اليقين بالجزاء الإلهي ويقلل التعلق بالنتائج الدنيوية. هذا الإخلاص في النية هو أساس الثبات على طريق الخير، حتى عندما تكون ردود الفعل الخارجية مخيبة للآمال. سبب آخر يمكن استنتاجه من آيات القرآن هو الحكمة الإلهية في "امتحان" و"اختبار" العباد. الحياة الدنيا، وفقًا لقول القرآن، هي دار اختبار. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 155: "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ." تشير هذه الآية إلى أن الله يختبر البشر بأنواع مختلفة من الصعوبات، بما في ذلك الضيق العاطفي والفقدان، ليقيس مدى صبرهم وإيمانهم وتوكلهم عليه. قد يكون بقاء المحبة بلا رد نوعًا من هذه الاختبارات؛ امتحانًا لمدى ثبات الإنسان على طريق الخير، حتى عندما لا يكون هناك مكافأة دنيوية فورية. تمنح هذه الاختبارات المؤمن فرصة لتحقيق النمو الروحي والمعنوي، وتعميق ثقته بالله، ومعرفة أن الأجر الحقيقي لديه. كما نقرأ في سورة العنكبوت، الآية 2 و 3: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ." تؤكد هذه الآيات أن مجرد ادعاء الإيمان لا يكفي؛ بل يجب على الناس أن يثبتوا صدق إيمانهم من خلال الاختبارات. في هذا السياق، قبول حقيقة أن محبتنا قد تظل أحيانًا دون رد هو جزء من هذا الابتلاء وفرصة لصقل الروح وتعميق الإيمان. هذه الاختبارات تزيد من قدرة الإنسان على العطاء والصفح بلا شروط، وتقربه من المصدر اللانهائي للرحمة والمحبة الإلهية. بالإضافة إلى ذلك، يجب الإشارة إلى "الضعف والنقص في الطبيعة البشرية". يشير القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا إلى الطبيعة المتقلبة وغير الشاكرة أحيانًا للإنسان. فالبشر كائنات تتأثر بعوامل مختلفة مثل الجهل والأنانية والحسد والحقد، أو حتى مجرد سوء فهم للموقف، وقد لا يتمكنون من الاستجابة بشكل مناسب لمحبة الآخرين وحسن نيتهم. في بعض الأحيان، قد يكون الشخص الذي تُظهر له المحبة غير قادر على قبولها أو ردها بسبب مشاكله الداخلية. يجب ألا يؤدي هذا إلى اليأس، بل يجب النظر إليه بفهم وبصيرة. تشير الآية "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ" (البلد، الآية 4) إلى الصعوبات الجوهرية في حياة الإنسان التي يمكن أن تؤثر على علاقاته أيضًا وتفسر عدم التوافق في الردود. علاوة على ذلك، في بعض الحالات، قد يتم التعبير عن محبتنا بطريقة أو في وقت لا يكون فيه المستلم مستعدًا لتقبلها، أو قد يساء فهمها. هذه جوانب من التفاعلات البشرية تتطلب التعامل معها بحكمة وصبر، مع الأخذ في الاعتبار أن كل إنسان يمر بمساره الخاص في التطور وقد لا يكون في مرحلة تسمح له بفهم وتقدير محبتنا. معرفة هذه التعقيدات البشرية تقلل من التوقعات غير الواقعية وتساعد الإنسان على المضي قدمًا في طريق الإحسان بمزيد من الطمأنينة. نقطة أخرى مهمة هي "الثواب الأخروي". يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا أن الثواب الحقيقي للأعمال الصالحة يكون في الدار الآخرة وعند الله. تقول سورة الكهف، الآية 46: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا." تذكرنا هذه الآية بأن القيمة الحقيقية تكمن في الأعمال الصالحة الباقية، وأن ثوابها عند الله أفضل وأكثر أملًا. عندما لا تلقى محبتنا ردًا في الدنيا، يجب ألا ننسى أن الهدف الأسمى هو نيل رضا الله وتجميع الحسنات للآخرة. كل عمل صالح وكل ذرة محبة تُظهر خالصًا لله، حتى لو تم تجاهلها في الدنيا، تُسجل في صحيفة أعمالنا ويكون لها أجر عظيم في الآخرة. هذا الأجر ليس ماديًا فقط، بل يشمل الطمأنينة الداخلية، والقرب من الله، والجنة الخالدة. يساعد هذا المنظور الإنسان على التحرر من التعلق المفرط بالنتائج الدنيوية والبقاء ثابتًا على طريق الخير، معتمدًا على الوعود الإلهية. التركيز على الثواب الأبدي يطهر قلب الإنسان من مرارات الدنيا المؤقتة ويوجهه نحو القيم الدائمة. في الختام، يمكن أن يكون بقاء المحبة بلا رد درسًا لـ "مراجعة هدفنا ودوافعنا". هل محبتنا صادقة حقًا ولوجه الله، أم أن لدينا توقعات خفية من البشر؟ يمكن أن تكون هذه التجربة فرصة للتزكية وتصحيح النوايا. يدعو القرآن دائمًا المؤمنين إلى التفكر والتدبر وإصلاح الباطن. إذا لم تحقق محبتنا النتيجة المرجوة، يمكننا أن نرى ذلك كعلامة من الله تدعونا إلى مراجعة نياتنا وتُعلمنا أن القوة الحقيقية والاستجابة النهائية هي بيده وحده. في مثل هذه الظروف، يلجأ المؤمن الحقيقي، بدلاً من اليأس والتوقف عن طريق الخير، إلى الله ويستمر في الإحسان، لأنه يعلم أن أي عمل خير لا يضيع عند ربه. لا يؤدي هذا النهج إلى النمو الفردي فحسب، بل يدفع المجتمع أيضًا نحو الخير والبر، حيث يتعلم الناس أن يحبوا بعضهم البعض دون توقعات، وهذا هو حجر الزاوية في مجتمع إلهي ورحيم يقاس فيه قيمة الأعمال ليس على أساس ردود الفعل البشرية، بل على أساس التقوى والإخلاص الإلهي.
يروى في روضة سعدي أن ملكًا عادلاً كان لديه وزير حكيم. ذات يوم، كان الوزير يغرس شتلة في بستان جميل. مر الملك به وسأله: "يا وزير، ماذا تفعل؟" أجاب الوزير: "أغرس شجرة جوز." فقال الملك متعجبًا: "أنت تعلم أن الجوز يتأخر في الإثمار، وربما لا يمتد عمرك لتأكل من ثماره، فلماذا تغرسها؟" فرد الوزير بابتسامة دافئة: "يا ملكي، غرس غيرنا فأكلنا، والآن نغرس ليأكل غيرنا. الأجر والثواب الحقيقيان عند الله، لا في انتظار الشكر من المخلوق. المحبة الحقيقية هي التي تكون بلا انتظار، وتطلب رضا الله وحده." سر الملك بهذا القول وتعلم درسًا عظيمًا من حكمة وزيره: أن كل عمل خير، حتى لو لم يلقَ ردًا فوريًا في الدنيا، فإن أجره محفوظ وينير قلب صاحبه.