القرآن لا يعتبر الصفات الإنسانية إلهية بذاتها، بل يؤكد على قدرة الإنسان على عكس الصفات الإلهية الكاملة (مثل الرحمة والعدل والحكمة). هذا الانعكاس يعود إلى نفخ الروح الإلهية في الإنسان ودوره كخليفة لله على الأرض، مما يمكّنه من تحقيق الكمال والقرب الإلهي بالتزين بهذه الصفات.
يقدم القرآن الكريم، وهو الوحي الإلهي، نظرة عميقة وفريدة للغاية حول مكانة الإنسان وقدراته. عند الحديث عن الصفات الإنسانية وعلاقتها بالصفات الإلهية، يجب النظر إلى هذا الموضوع بدقة وحساسية. فالقرآن لا يعتبر الصفات البشرية إلهية بطبيعتها بأي شكل من الأشكال، لأن هذا يتعارض مع مفهوم التوحيد ووحدانية الله المطلقة التي لا مثيل لها. فالله واحد لا شريك له، وصفاته لا متناهية، ومطلقة، وأزلية. ومع ذلك، فإن ما يطرحه القرآن هو أن الإنسان يمتلك قدرة وإمكانات لا مثيل لها لتجلي وعكس الصفات الإلهية الكاملة في كيانه. هذا الانعكاس لا يعني أن الإنسان أو صفاته تصبح إلهية، بل يشير إلى مسار نحو الكمال من خلال تزكية النفس والاقتداء بالصفات الإلهية. لا يؤكد هذا المنظور على كرامة الإنسان فحسب، بل يحدد أيضًا مسارًا واضحًا لتطوره الروحي والأخلاقي، موجهًا البشرية نحو أسمى درجات التميز الإنساني. ينبع هذا القدرة الفريدة من طريقة خلق الإنسان ذاتها. يشير القرآن الكريم في آيات متعددة إلى خلق آدم عليه السلام، ومنها في سورة ص، الآية 72، التي تقول: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ". هذه العبارة "نفخت فيه من روحي" لا تعني بأي حال من الأحوال أن جزءًا من جوهر الله قد حل في الإنسان، لأن الله منزه عن كل تجزئة أو انقسام. بل يدل هذا التعبير على اتصال خاص، نفحة قدسية وإلهية تمنح الإنسان قدرات خاصة ومرتقية. هذه "النفحة" تمنح الإنسان قوة العقل، والإرادة، والاختيار، والقدرة على الحب، وإدراك الحقائق. ولهذا السبب بالتحديد، يتميز الإنسان على سائر المخلوقات ويصبح مستحقًا لمقام "الخلافة" على الأرض. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 30: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً". هذا المقام الخلافة، أي تمثيل الله على الأرض، يضع مسؤولية ثقيلة على عاتق الإنسان. فالخليفة يجب أن يعكس صفات من يمثله، بقدر طاقته وقدرته. بصفته خليفة الله، يُكلف الإنسان، بأقصى درجات كماله البشري، بتجلي العدل، والرحمة، والعلم، والحكمة، وسائر الصفات الإلهية الكاملة في حياته الفردية والجماعية. هذه القدرة الفريدة هي التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات وتمكنه من أن يكون مرآة تعكس صفات الخالق. تسمح هذه القدرة للإنسان بالسير في طريق النمو والارتقاء، وتربية هذه النفحة الإلهية في كيانه بأفضل طريقة ممكنة من خلال تزكية النفس والالتزام بالتعاليم الإلهية، وبالتالي الوصول إلى المقامات الروحية العالية. أحد أهم جوانب هذا الانعكاس يتجلى في "الأسماء الحسنى" أو أسماء الله الحسنى. يشير القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا إلى صفات الله الكاملة، مثل "الرحمن"، "الرحيم"، "الغفور"، "الحكيم"، "العليم"، "العدل"، "الكريم"، "الصبور"، "الحليم"، وغيرها الكثير. لا تخدم هذه الصفات فقط لتعريف الله، بل تشكل أيضًا نموذجًا للمسيرة الروحية والسلوك الإنساني. وقد قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم قولًا شهيرًا: "تخلقوا بأخلاق الله"، والذي يعني: "تزينوا بصفات الله". يشير هذا الحديث بشكل جميل وواضح إلى أن الغرض من معرفة الصفات الإلهية ليس مجرد فهم نظري، بل هو في المقام الأول تطبيق هذه الصفات وتجليها في سلوك الإنسان وشخصيته. على سبيل المثال: * **الرحمة والمغفرة (الرحمن، الرحيم، الغفور، العفو):** يصف الله نفسه في القرآن بأنه أرحم الراحمين وأغفر الغافرين. ويُأمر الإنسان بالمثل بأن يكون رحيمًا وغفورًا تجاه إخوانه من البشر. في سورة آل عمران، الآية 134، يُوصف المحسنون بأنهم الذين يكظمون الغيظ ويعفون عن الناس، وأن الله يحب المحسنين. تدعو هذه الآية بوضوح إلى المغفرة واللطف، والتي هي انعكاس لصفة الغفور والعفو من الله. كلما استطاع الإنسان أن يتحكم في غضبه ويغفر للآخرين، فإنه بطريقة ما يظهر صفة المغفرة الإلهية في كيانه. لا يجلب هذا الفعل السلام الداخلي للفرد فحسب، بل يقوي العلاقات الاجتماعية ويعزز جوًا من التضامن والتعاطف. * **العدل (العدل، الحكيم):** الله هو العدل المطلق والحكيم اللامتناهي. ولذلك، يجب على الإنسان، في جميع تعاملاته - سواء مع نفسه أو مع الآخرين أو المجتمع - أن يلتزم بالعدل والإنصاف. في سورة المائدة، الآية 8، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ". تؤكد هذه الآية صراحة على ضرورة التزام العدل، حتى مع الأعداء، وهو تجلي لصفة العدل الإلهي وضمان لاستقرار المجتمع ورفاهيته. * **العلم والحكمة (العليم، الحكيم):** الله هو العليم المطلق والحكيم. والإنسان، بحكم فطرته وعقله، يسعى دائمًا إلى العلم والمعرفة ويُشجع على اكتسابهما. فطلب العلم والتفكر والتدبر في الخلق، كلها سبل للتقرب من الحكمة والمعرفة الإلهية ضمن القدرة البشرية. إن اكتساب المعرفة واستخدامها من أجل الصلاح والخلاص هو بحد ذاته مظهر من مظاهر صفتي العليم والحكيم الإلهيتين. * **الرزق والكرم (الرزاق، الكريم):** الله هو الرزاق والكريم الأكرم. والإنسان بدوره، مقابل النعم التي مُنحت له، يجب أن يكون كريمًا ومُعينًا للمحتاجين. فالبذل والعطاء، والسخاء، والإنفاق في سبيل الله، كلها مظاهر لصفة الكرم الإلهي في كيان الإنسان، والتي لا تجلب البركة لحياة الفرد فحسب، بل تساعد أيضًا في القضاء على الفقر والحرمان من المجتمع. لا يعد هذا الانعكاس للصفات الإلهية مجرد نقاش نظري؛ بل يرتبط مباشرة بالهدف من خلق الإنسان ومسؤولياته. فقد خلق الإنسان ليعبد الله، ولكن العبادة في الإسلام لا تقتصر على الطقوس وحدها. فالعبادة تشمل جميع جوانب الحياة التي تتوافق مع رضوان الله. إن إقامة مجتمع عادل، مليء بالرحمة والمودة، والسعي لاكتساب العلم والمعرفة، وخدمة الخلق، وإصلاح الأرض، كلها تعتبر من مظاهر العبادة. عندما يتزين الإنسان بصفات الله، يمكنه أن يؤدي دوره كخليفة لله على أفضل وجه، ويسعى جاهداً لإقامة النظام والصلاح في الأرض. هذه المسؤولية لا تجلب للفرد السلام الروحي والنجاح في الدنيا والآخرة فحسب، بل تساهم أيضًا بشكل كبير في تحسين وتقدم المجتمع البشري، مما يمهد الطريق لظهور مجتمع فاضل ومثالي. على الرغم من كل هذه التفسيرات، من الضروري أن نتذكر دائمًا أن الصفات البشرية لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال مرادفة أو مساوية للصفات الإلهية. فصفات الله أزلية، وأبدية، ولا متناهية، وكاملة، ومتأصلة في ذاته، في حين أن الصفات البشرية محدودة، ونسبية، وناقصة، ومكتسبة أو مُنمّاة. فمهما بلغت رحمة الإنسان من اتساع، لا يمكنها أن تضاهي رحمة الله اللامتناهية. وقد يخطئ عدل الإنسان، لكن عدل الله مطلق. هذا الاختلاف الجوهري يحافظ على الحدود بين الخالق والمخلوق، ويمنع أي شكل من أشكال الشرك أو الكفر. الهدف هو السعي نحو الكمال الإنساني والأخلاقي من خلال الاقتداء بهذه الصفات المطلقة والاقتراب منها، وليس ادعاء الألوهية للنفس أو لصفاتها. هذا هو مسار الحركة نحو الكمال، وليس تحقيق جوهر الكمال ذاته. فالإنسان بمثابة مرآة يمكنها أن تعكس النور الإلهي، لكنه ليس مصدر النور نفسه أبدًا. هذا التمييز الدقيق يشكل حجر الزاوية في التوحيد الإسلامي ويمنع أي شكل من أشكال الغلو أو سوء التفسير. في الختام، يدعو القرآن الكريم، من خلال طرح هذه القدرة البشرية الفريدة على انعكاس الصفات الإلهية، البشرية إلى رحلة داخلية وخارجية: رحلة تزكية النفس، وتنقيتها الروحية، والسعي لتجلّي أفضل الصفات الأخلاقية في كيانهم. هذا المنظور يضفي معنى عميقًا على حياة الإنسان، ويحدد غايته النهائية في تحقيق القرب الإلهي من خلال التزين بمكارم الأخلاق وأداء مسؤوليات الخلافة الإلهية. هذا ليس فقط مصدر شرف وكرامة للإنسان، بل هو أيضًا تذكير دائم بمسؤوليته تجاه الخالق وسائر المخلوقات. إنه مسعى لأن يصبح الإنسان مرآة أوضح تعكس نور الصفات الإلهية في العالم، وبالتالي يحقق سعادته الخاصة ويساهم في ازدهار الأرض وإصلاحها وإقامة مجتمع قائم على القيم الإلهية السامية.
يقال، كان هناك ملك صارم وعادل، لم يظلم رعيته قط. ذات يوم، ارتكب خادمه خطأً كبيرًا يستوجب الإعدام. كان الجميع ينتظر حكم الإعدام، لكن الملك توقف للحظة وقال في نفسه: "رحمة الرب على خلقه لا حدود لها، وقد أمرني أن أرحم عباده. إذا كان الله رحيمًا بالخطاة، فلماذا لا أغفر لهذا الخادم الذي أخطأ مرة واحدة فقط؟" فسامحه الملك، ومنذ ذلك الحين، خدم الخادم بولاء وصدق أكبر. وقال الناس: "هذا هو مظهر الصفات الإلهية في خليفة الله على الأرض." هذه القصة، التي تذكرنا ببستان سعدي، تعلمنا كيف يمكن للإنسانية، من خلال تمثل الصفات الإلهية مثل الغفران والرحمة، أن تجلب ليس فقط الخلاص الفردي ولكن أيضًا السلام والبركة للمجتمع.