يؤكد القرآن على السمع والبصر والفؤاد لأنها الأدوات الأساسية لتلقي الوحي والآيات الإلهية، مما يمكّن الإنسان من الفهم والتأمل والوصول إلى البصيرة الحقيقية. فالأذن ضرورية لسماع كلام الله، والعين لإدراك الآيات في الكون، والقلب لمعالجة وفهم هذه المعلومات بعمق، مما يؤدي إلى الإيمان.
القرآن الكريم، كلام الله الخالد، أكد باستمرار على الدور الحاسم والأهمية البالغة للحواس والقوى الإدراكية للإنسان في طريق الهداية وإدراك الحقيقة. من بين هذه الأدوات، يحتل السمع والبصر والفؤاد (أو القلب) مكانة خاصة؛ لأنها تُعتبر القنوات الأساسية لاستقبال المعلومات ومعالجتها للوصول إلى فهم عميق وبصيرة. إن تأكيد القرآن على هذه الأعضاء الثلاثة يدل على بصيرة إلهية عميقة تجاه آلية الإدراك والمعرفة في الوجود البشري. لقد أنعم الله تعالى على الإنسان بهذه الأدوات ليدرك من خلالها آيات التوحيد والقوة الإلهية في الآفاق والأنفس، ومن ثم يسترشد نحو الإيمان والحقيقة. **السمع: بوابة الكلمة الإلهية والحقائق المسموعة** الأذن هي الأداة الأولى وربما الأهم لتلقي الوحي والكلام الإلهي. لقد بشر القرآن مرارًا وتكرارًا أولئك الذين لديهم أذن صاغية ويستمعون إلى كلمة الحق. هذا الاستماع ليس مجرد فعل جسدي، بل يعني الإصغاء بكل الكيان، والتأمل والتدبر فيما يُسمع، وفي النهاية، العمل به. فالكلام الإلهي، سواء كان على شكل آيات قرآنية أو من خلال تعاليم الأنبياء، يدخل العقل في البداية عن طريق الأذن. إن عدم الاستخدام الصحيح لهذه النعمة، أو بعبارة أخرى، رفض قبول الحقيقة المسموعة، هو أحد الأسباب الرئيسية للضلال. يذكر القرآن أولئك الذين 'لهم آذان لا يسمعون بها'؛ أي أنهم يعرضون عن سماع كلمة الحق أو، بعد سماعها، يتمردون عليها. هذا يعني صمم القلب، وليس مجرد عجز جسدي. إن تأكيد القرآن على الأذن يبرز أهمية الاتصال المباشر للإنسان بالرسالة الإلهية ومسؤوليته تجاه سماع الحق. من خلال الأذن، يمكن للإنسان أن يستمع إلى النصائح الحكيمة، والآيات المتلوة، وأقوال الأنبياء، وبالتالي يجد الطريق الصحيح في الحياة. تنتقل العديد من حقائق الدين عبر السمع والتعلم والحوار، وتلعب الأذن دورًا لا غنى عنه في هذه العملية. **البصر: نافذة على العالم وآيات الوجود** العين هي أداة الرؤية ومشاهدة عالم الخلق؛ عالم مليء بالآيات وعلامات العظمة الإلهية. من تعاقب الليل والنهار، وحركة النجوم، ونظام الطبيعة، وتنوع الكائنات، إلى تعقيدات جسم الإنسان، كل ذلك آيات وعلامات وضعها الله لأصحاب البصيرة. يدعو القرآن الإنسان إلى السير في الأرض والنظر في الخلق حتى يدرك من خلال مشاهدة هذه الدلائل قوة الخالق وحكمته وعلمه اللانهائي. لكن هذه الرؤية أيضًا تتجاوز مجرد فعل جسدي بسيط؛ فالرؤية بالبصيرة تعني النظر بتدبر وتفكر، حتى يصل الإنسان من ظاهر الأشياء إلى عمقها وحقيقتها. أولئك الذين يستخدمون أعينهم فقط لرؤية المظاهر والملذات المادية، ويهملون رؤية الآيات الإلهية، هم في الواقع عميان روحيون، حتى لو كانوا يمتلكون بصراً جسدياً. يقول القرآن: 'فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ'. تشير هذه الآية بوضوح إلى أن الرؤية الحقيقية هي رؤية القلب والبصيرة الداخلية التي من خلالها يمكن للإنسان تمييز الحقائق. يساعد الاستخدام الصحيح للعين الإنسان على التعلم من عجائب الخلق، وإدراك عظمة الخالق، واتباع طريق الهداية من خلال الملاحظة البصرية للآيات الإلهية. **الفؤاد (القلب): مركز الفهم والإدراك والإيمان** من منظور القرآن، ليس القلب (الفؤاد/القلب) مجرد عضو جسدي، بل هو مركز الإدراك والفهم والتفكير واتخاذ القرار والإرادة والعواطف والإيمان. هذا هو المكان الذي يشع فيه نور الهداية، وبه يدرك الإنسان الحقائق ويتخذ القرارات. تجمع الأذن والعين المعلومات، لكن القلب هو الذي يعالج هذه المعلومات، ويتأمل فيها، ويؤدي في النهاية إلى قبول الحق أو رفضه. إذا كان القلب سليمًا ومستعدًا للقبول، فإن ما يُسمع من خلال الأذن ويُرى من خلال العين سيتحول إلى إيمان ويقين. أما إذا كان القلب مريضًا أو غافلاً أو مختومًا، فلن يكون سماع أوضح الآيات ورؤية أوضح العلامات ذا فائدة. يذكر القرآن 'القلب السليم' كشرط للخلاص وينتقد أولئك الذين قلوبهم مريضة أو مختومة. القلب هو المكان الذي توضع فيه الحكمة والنور الإلهي، ومنه تنبع البصيرة الحقيقية. تحدث الهداية الحقيقية عندما يتم تحليل المعلومات الحسية (من الأذن والعين) في القلب وتحويلها إلى بصيرة ووعي. لذلك، يلعب القلب دورًا محوريًا في عملية الهداية؛ فهو المكان الذي يتم فيه الاختيار والتحليل والفهم العميق، وتتكون فيه النوايا والإرادات. تعمل هذه الأعضاء (السمع والبصر والفؤاد) في انسجام تام مع بعضها البعض. تستقبل الأذن الرسائل الإلهية، وترى العين الآيات الإلهية في العالم، ويقوم القلب باستيعاب هذه المعلومات، وفهمها، والتفاعل معها لتؤدي إلى الإيمان والعمل الصالح. ولهذا، فإن الحفاظ على سلامة هذه الأدوات الثلاث واستخدامها الصحيح، هو مفتاح الوصول إلى الهداية والخلاص الأبدي.
في كتاب «گلستان» لسعدي، يُروى أن أحد الحكماء رأى درويشًا، رغم امتلاكه عينين ثاقبتين وأذنين صاغيتين، كان بعيدًا عن الحكمة ويقضي أيامه في غفلة. فقال الحكيم: «أيها الدرويش، لقد وهبك الله عينين لترى بهما آيات حكمته في العالم، وأذنين لتسمع بهما كلمة الحق، ومنحك قلبًا لتعقل به ما ترى وتسمع، وتنتفع به. لكنك انغمست في ظاهر الدنيا لدرجة أنك كأنك لا تملك عينين ولا أذنين. فمن لا يستخدم حواسه في سبيل معرفة الحق، فإنه وإن كان مبصراً وسميعاً في الظاهر، إلا أنه أعمى وأصم في الباطن، لأن قلبه قد نام. إن المثل في ذلك كمن يملك كنزًا تحت قدميه ولا يعلم به، فيخفق به الفقر. كذلك هو العلم المنتشر في العالم، وهو عاجز عن إدراكه.» تذكرنا هذه القصة بأن أدوات الهداية بين أيدينا؛ والمهم هو أن نستفيد منها بقلب مستيقظ وفهم عميق.