لماذا لا يطمئن قلبي رغم كثرة الذكر؟

لا تتحقق طمأنينة القلب بمجرد الذكر؛ بل تتطلب حضور القلب، وتطهير الباطن من الذنوب، والتوكل الحقيقي على الله، ومقارنة ذلك بالأعمال الصالحة. يجب أن يتجاوز الذكر الحقيقي اللسان وينفذ إلى أعماق الوجود ليطمئن القلب حقاً.

إجابة القرآن

لماذا لا يطمئن قلبي رغم كثرة الذكر؟

يا أخي أو أختي الكريمة، سؤالك يلامس درساً عميقاً من تعاليم القرآن الكريم والحقائق الباطنية للإنسان. أحياناً، على الرغم من الجهود الكبيرة في الذكر والثناء على الله، قد لا يصل قلبنا وعقلنا إلى الطمأنينة المرجوة. هذه تجربة شائعة، والقرآن الكريم، ببصيرته الفريدة، يضيء على جذور هذه المسألة وحلولها. فالإجابة لا تكمن فقط في كمية الذكر، بل في نوعيته وعمقه، وفي مصاحبته بالجوانب الأخرى من الحياة الإيمانية. في الحقيقة، الذكر الحقيقي ليس مجرد ترديد للكلمات، بل هو حضور للقلب، وتأمل في المعاني، وتجلٍّ له في السلوك والعمل الصالح. يوضح القرآن الكريم في سورة الرعد، الآية ٢٨: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب). هذه الآية هي وعد إلهي، ولكن تحقيق هذه الطمأنينة مشروط بامتلاك إيمان حقيقي ونوعية خاصة في الذكر. إذا لم تتحقق هذه الطمأنينة، فعلينا أن ننظر إلى عوامل أخرى تؤثر في طمأنينة القلب من منظور القرآن. أحد أهم أسباب عدم الطمأنينة، حتى مع كثرة الذكر، يمكن أن يكون غفلة القلب. فالذكر ليس مجرد تكرار للألفاظ؛ بل هو حضور القلب الكامل وانتباه تام للمعنى والمفهوم. كما يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية ١٥٢: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ» (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون). هذا الذكر يجب أن يأتي من أعماق الوجود، وليس مجرد اللسان. عندما يكون العقل مشغولاً بالهموم الدنيوية، أو بالضغائن، أو الحسد، أو الطموحات المادية، حتى لو كان اللسان مشغولاً بالذكر، فإن القلب يظل مضطرباً ولا يختبر الطمأنينة. إن نقاء القلب من التعلقات الدنيوية والرذائل الأخلاقية هو شرط أساسي لتأثير الذكر. فالذنوب، والتلوثات الروحية، وعدم مراعاة حقوق الآخرين يمكن أن تشكل حجاباً بين القلب ونور الذكر. عامل آخر يمكن أن يعيق الطمأنينة هو عدم التوكل الحقيقي على الله. فكثير من الاضطرابات والهموم تنبع من اعتقادنا بأننا نتحكم في كل الأمور والخوف من المستقبل. يؤكد القرآن في آيات عديدة على التوكل والثقة بالمشيئة الإلهية. عندما يكون الإنسان متيقناً بأن الله هو أفضل المدبرين، وأن شيئاً لا يحدث إلا بإذنه، فإن قلبه يجد الطمأنينة، حتى لو كان ظاهراً في ظروف صعبة. يجب أن يكون الذكر مصحوباً بهذا التوكل والتسليم. في سورة الطلاق، الآية ٣، نقرأ: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً). بالإضافة إلى ذلك، تلعب أعمالنا وسلوكياتنا دوراً كبيراً في طمأنينة القلب. الذكر هو جانب واحد فقط من جوانب العبادة. فالصلاة، والصدقة، والإحسان إلى الوالدين واليتامى، والعدل في المعاملات، والامتناع عن الظلم والكذب، وبشكل عام القيام بالأعمال الصالحة، كلها عوامل تساهم في تطهير الروح وطمأنينة القلب. لقد أكد القرآن مراراً وتكراراً على العلاقة الوثيقة بين الإيمان والعمل الصالح. ففي سورة النحل، الآية ٩٧، يقول تعالى: «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون). فالحياة الطيبة (النقية والهادئة) هي نتيجة الإيمان المقترن بالعمل الصالح. علاوة على ذلك، يجب الانتباه إلى العوائق الداخلية مثل العجب، والكبر، والرياء، والحسد، والحقد. هذه الرذائل الأخلاقية هي أمراض تصيب الروح وتمنع نور الذكر من الدخول إلى القلب وتهدئته. التوبة والاستغفار من الذنوب، وتطهير القلب من هذه الأمراض، والسعي لاكتساب الفضائل الأخلاقية، كلها خطوات ضرورية للوصول إلى الطمأنينة الحقيقية. يأمر القرآن المؤمنين بالتوبة من ذنوبهم والعودة إلى الله. في سورة النور، الآية ٣١، يقول: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). والفلاح يشمل طمأنينة القلب. في الختام، طمأنينة القلب هي رحلة وليست وجهة. هذه الرحلة تتطلب الاستمرارية، والصبر، والمراقبة، ومحاسبة النفس، والسعي لمواءمة الظاهر والباطن. يجب أن يكون الذكر مصحوباً بالتفكير، والتدبر في الآيات الإلهية، والفهم الأعمق لعظمة ورحمة الرب. عندما يتحول الذكر من عادة إلى عبادة قلبية مدعومة بالأعمال الصالحة والتوكل الحقيقي، عندها يتحقق الوعد الإلهي بشأن طمأنينة القلب. فلنمنح أنفسنا الفرصة للسير في هذا الطريق بصبر وبصيرة، ولنعلم أن الله هو دائماً معين عباده الصادقين.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

يُروى في گلستان سعدي أنه في سالف الأزمان، كان هناك عابدٌ قضى سنواتٍ طويلة في الذكر والأوراد، ولكنه لم يشعر قط بالسكينة الحقيقية ولا بالرضا. كان دائماً مضطرباً وقلقاً، يشكو يومياً من الفقر والعوز. في أحد الأيام، صادفه درويش عارف ورأى أنه على الرغم من مظهره التقي، إلا أن قلبه كان مليئاً بهموم الدنيا، ولسانه لا يوافق قلبه. فقال الدرويش بابتسامة لطيفة: «يا صديقي، ذكرك طيب، ولكن يبدو أن لسانك كينبوع يروي، لكن قلبك كإناء مثقوب لا يحتفظ بالماء. الذكر الحقيقي هو أن تطهر قلبك أولاً من شوائب الحسد والطمع والغيبة، ثم تتجه بكيانك كله نحو الحق. حينها سترى أن الفقر لن يؤذيك فحسب، بل ستجد سكينة في روحك لا يضاهيها أي كنز.» تأثر العابد بكلام الدرويش، وتأمل بعمق، فأدرك أن السكينة لا تكمن في كثرة الذكر، بل في نقاء النية وتناغم القلب واللسان مع الرب. وبعد ذلك، ومع تغيير نهجه، بدأ نور الطمأنينة يشع تدريجياً في قلبه.

الأسئلة ذات الصلة