نعم، يولد جميع البشر على «فطرة نقية» وميل فطري نحو الخير والتوحيد؛ هذا الميل الأصيل قد يتأثر ويغطى أو ينحرف بسبب البيئة والتربية، ولكنه لا يزول أبدًا.
في الإسلام، واستنادًا إلى تعاليم القرآن الكريم الواضحة، فإن الإجابة على هذا السؤال قاطعة وإيجابية: نعم، يولد جميع البشر بفطرة نقية. هذا المفهوم، الذي يُعرف في اللغة العربية بـ«الفطرة»، يشير إلى الطبيعة الأصلية والنقية التي أودعها الله تعالى في جوهر كل إنسان. الفطرة تعني الميل الفطري واللاواعي للإنسان نحو الحق، العدل، الجمال، الخير، والكمال؛ ميل يقوده نحو التوحيد والإيمان بوحدانية الله وقبول الرسالة الإلهية. هذه الوديعة الإلهية هي هبة من الخالق تجعل الإنسان منذ ولادته مستعدًا لمعرفة الخالق والسير في طريق الكمال. القرآن الكريم يشير بوضوح إلى هذه الحقيقة. من أبرز الآيات في هذا السياق هي الآية 30 من سورة الروم التي تقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾. هذه الآية تبين بوضوح أن الدين الحقيقي هو الفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها، ولا تبديل لخلق الله. هذا يعني أن الدين ليس شيئًا خارجًا عن وجود الإنسان، بل هو متوافق مع جوهره وطبيعته. فالإنسان بطبيعته وفطرته يميل إلى عبادة كائن متعالٍ وأسمى، وهذا الميل هو أظهر تجليات الفطرة الإلهية. وكذلك، فإن الحديث النبوي الشريف المشهور الذي يقول: «كلُّ مولودٍ یولدُ على الفطرةِ فأبواهُ یهوِّدانِه أو ینصِّرانِه أو یمجِّسانِه» (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، يوضح هذا المفهوم أكثر فأكثر. يؤكد هذا الحديث الشريف أن الانحراف عن الفطرة الإلهية النقية هو نتيجة لعوامل خارجية، تربية خاطئة، بيئة اجتماعية، وتأثيرات سلبية، وليس نقصًا أو عيبًا جوهريًا في خلق الإنسان. الفطرة أشبه بالبذرة النقية التي تُزرع في أرض وجود الإنسان، وإذا كانت بيئة نموها مواتية، فإنها ستزهر نحو الخير والصلاح، ولكن إذا تعرضت للآفات والسموم، فقد تنحرف عن مسارها الأصلي أو تظل مخفية. الفطرة الإلهية لا تقتصر على الميل إلى التوحيد فحسب، بل تشمل أيضًا الميل إلى القيم الأخلاقية مثل الصدق، العدل، الإحسان، الخير، والابتعاد عن الرذائل. فالإنسان بطبيعته يكره الظلم والكذب ويميل إلى اللطف والإنصاف، إلا إذا قامت عوامل معينة بقمع أو تشويه هذا الميل الفطري. تشكل هذه الميول الفطرية الأساس الأخلاقي للمجتمع، وهي دليل الإنسان في طريقه إلى تحقيق الكمال والسعادة. دور الأنبياء والكتب السماوية يُعرّف في هذا السياق أيضًا. فهم لم يأتوا لتعليم الإنسان شيئًا جديدًا تمامًا، بل جاءوا لإيقاظ الفطرة النائمة فيه وتذكيره بالكنز الذي يحمله في داخله. تعمل التعاليم الإلهية كالسقاية لهذه البذرة الفطرية، وتساعدها على النمو والازدهار. يمكن أن يغطي الجهل، الغفلة، اتباع الأهواء، والضغوط الاجتماعية طبقات من الغبار على مرآة الفطرة، مما يجعلها باهتة، لكن هذا لا يعني أن الفطرة قد زالت، بل إنها مجرد مغطاة. ولهذا السبب، يؤكد الإسلام دائمًا على التوبة والعودة إلى الله؛ لأن التوبة هي في الحقيقة عودة إلى الفطرة الإنسانية الأصيلة النقية. وفي الختام، فإن هذه الرؤية القرآنية حول الفطرة تبث بصيص أمل في قلب كل إنسان. فمهما ابتعد الإنسان في طريق الخطأ، يظل هناك أمل في العودة والإصلاح، لأن نور الفطرة في أعماق وجوده لا ينطفئ أبدًا. واجب الإنسان في هذه الدنيا هو أن يزيل بعزيمة واعية العوائق من طريق فطرته ويسمح لهذه الجوهرة الداخلية أن تتألق وتقوده نحو المقصد الأسمى، وهو القرب الإلهي. هذا الإيمان بالفطرة النقية يضع أيضًا مسؤولية كبيرة على عاتق الآباء، المربين، والمجتمع لتوفير بيئة صحية وراعية لنمو هذه المواهب الإلهية ومنع تلوثها.
يُروى في گلستان سعدي: «عشرة دراويش ينامون في دثار واحد، ولا يتسع إقليم لملكين». هذه الحكاية الجميلة، على الرغم من أنها تبدو ظاهريًا عن القناعة والطمع، إلا أنها في جوهرها يمكن أن تكون تذكيرًا بالفطرة النقية للإنسان. الدراويش بقلوبهم البسيطة والنقية، يعيشون وفق فطرتهم الأولية، وهم منقطعون عن الدنيا وتعلقاتها لدرجة أن عشرة منهم يجدون الراحة في دثار واحد. أما الملوك، الذين ربما غطى غبار الدنيا والطموح فطرتهم، حتى لو امتلكوا إقليمًا واسعًا، فإنهم لا يجدون السلام بسبب جشعهم وطمعهم، ويظلون في صراع دائم مع بعضهم البعض. تذكرنا هذه القصة بأن النقاء والهدوء الداخلي لا يأتيان من الممتلكات الظاهرة، بل من العودة إلى تلك الطبيعة الأصيلة والمتجردة من الماديات التي أودعها الله في كل واحد منا. ليتنا جميعًا نستطيع أن نمحو غبار الدنيا عن مرآة قلوبنا ونعود إلى فطرتنا النقية.