يقدم القرآن معايير عميقة لمعرفة الذات، مؤكداً على التفكر في خلق النفس، وإدراك الفطرة الإلهية، وفهم الغاية من الوجود كعبد لله. هذه المعرفة الحقيقية ترشد الإنسان إلى هويته الأصيلة وصلته بالخالق.
في القرآن الكريم، على الرغم من أن مصطلح «معرفة الذات» بمعناه المباشر والمصطلحي الحديث قد لا يكون مستخدمًا بشكل صريح، إلا أن جوهره وأساسه قد تم طرحه في آيات عديدة بأساليب عميقة وثرية. يدعو القرآن الإنسان إلى التفكر والتدبر في وجوده وخلقه ليتوصل من خلال ذلك إلى معرفة حقيقة وجوده وعلاقته بخالق الكون. هذه المعرفة لا تساعد الإنسان على فهم مكانته في العالم فحسب، بل هي دليل له لحياة ذات معنى وهدف وأخلاقية في الدنيا ونجاة في الآخرة. من أهم معايير معرفة الذات في القرآن هو التأكيد على الإنسان كـ«آية» من آيات الله. في سورة فصلت، الآية 53، يقول الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»؛ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. تشير هذه الآية بوضوح إلى أن داخل الإنسان كنز من العلامات الإلهية، وأن التفكر فيها يؤدي إلى معرفة الرب، وفي النهاية إلى معرفة عميقة للذات. من تعقيدات الدماغ والجهاز العصبي إلى عجائب خلق الجنين في رحم الأم، كلها آيات تدل على عظمة الخالق وحكمته. التدبر في هذه العلامات يعلم الإنسان أنه ليس كائنًا عشوائيًا، بل خُلق بهدف وتصميم حكيم. كذلك، في سورة الذاريات، الآيتين 20 و 21 نقرأ: «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ»؛ وفي الأرض آيات للموقنين. وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟ تؤكد هذه الآيات بطريقة ما على أهمية «النظر إلى الداخل» واكتشاف الحقائق المخفية في وجودنا. معرفة نقاط القوة والضعف، والمواهب والقيود، والرغبات والدوافع، كلها جزء من هذه العملية. هذا الإدراك الداخلي يحرر الإنسان من الغفلة والغرور ويقوده إلى التواضع أمام عظمة الخالق والشكر على نعمه. معيار آخر لمعرفة الذات هو «الفطرة» الإلهية. يقول القرآن الكريم في سورة الروم، الآية 30: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»؛ فأقم وجهك للدين حنيفًا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الفطرة هي الطبيعة النقية والإلهية للإنسان التي تميل إلى التوحيد، والحقيقة، والعدل، والخير. معرفة الذات القرآنية تعني العودة إلى هذه الفطرة الأصيلة والتخلص من الانحرافات والشوائب التي تطرأ عليها على مدى الحياة. كلما اقترب الإنسان من فطرته، زادت معرفته بنفسه ووجد طريق الهداية بسهولة أكبر. هدف خلق الإنسان هو أحد المحاور الرئيسية الأخرى لمعرفة الذات القرآنية. في سورة الذاريات، الآية 56، نقرأ: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»؛ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. معرفة هذا الهدف الأسمى تمنح الإنسان هوية عميقة ومعنى ساميًا. العبادة في القرآن ليست مجرد أداء للطقوس، بل تشمل كل فكر وقول وفعل يصب في رضوان الله وخدمة خلقه. فهم هذا الهدف يساعد الإنسان على إدراك قيمته الحقيقية ومعرفة سبب خلقه وإلى أين سيعود. هذا الفهم يؤثر على جميع قراراته واختياراته. يشير القرآن أيضًا إلى حالات مختلفة للنفس (الروح وذات الإنسان) التي تعتبر معرفتها ضرورية لمعرفة الذات. من «النفس الأمّارة» (الآمرة بالسوء) التي تدفع الإنسان إلى الخطيئة والشهوات، إلى «النفس اللوامة» (التي تلوم نفسها) التي تلوم الإنسان بعد ارتكاب الذنب، وأخيرًا «النفس المطمئنة» (الهادئة والمطمئنة) التي وصلت إلى السكينة والطمأنينة الإلهية. مسار معرفة الذات القرآني هو الانتقال من النفس الأمّارة إلى النفس المطمئنة من خلال «الجهاد الأكبر» (الصراع ضد النفس) و «تزكية النفس» (تطهير الروح). تتضمن هذه العملية محاسبة النفس، والمراقبة، والتقوى، والابتعاد عن الذنوب، وكلها تؤدي إلى فهم أعمق للذات وقدرات الإنسان الكامنة في الوصول إلى الكمال. مسألة المسؤولية والاختيار الإنساني لها مكانة خاصة في معرفة الذات القرآنية. يوضح القرآن صراحة أن كل إنسان مسؤول عن أعماله: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾» (سورة الزلزلة). معرفة هذه المسؤولية وإدراك حرية الإرادة في اختيار طريق الحق أو الباطل، يمنح الإنسان قوة هائلة لتوجيه حياته وبناء مستقبل أفضل. هذا الوعي يحرره من رؤية نفسه كضحية للقدر أو الظروف الخارجية، ويمكنه من أن يكون فاعلًا نشطًا وبناءً في حياته. في الختام، معرفة الذات القرآنية لا تنفصل عن «معرفة الله». الحديث الشريف المعروف «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، على الرغم من أنه لم يذكر مباشرة في القرآن، إلا أن روحه تتوافق تمامًا مع تعاليم القرآن. فكلما أدرك الإنسان نقاط ضعفه واحتياجاته وقيوده واعتماداته، زادت معرفته بقوة خالقه وغناه وكماله وعظمته. فهم الأبعاد المختلفة للوجود الإنساني – الجسدية والعقلية والعاطفية والروحية – يؤدي في النهاية إلى فهم أكمل لخالق هذا الوجود المعقد. هذه المعرفة لا تؤدي إلى السلام الداخلي والرضا عن الحياة فحسب، بل تدفع الفرد نحو الأعمال الصالحة وخدمة المجتمع والارتقاء الروحي. لذلك، يمكن القول إن القرآن الكريم لا يقدم معايير لمعرفة الذات فحسب، بل هو دليل شامل وكامل لتحقيق هذا الفهم العميق والتحويلي.
يروى أن شابًا طموحًا أمضى سنوات في طلب الحكمة والمعرفة. سافر إلى كل بقعة وتصادق مع كل عالم، لكنه كان يشعر دائمًا أن شيئًا ما ينقصه. ذات يوم، التقى بحكيم عجوز وسأله: «يا أيها الشيخ الفاضل، لقد سعيت لمعرفة الذات لسنوات، ولكن في كل مرة أجد شيئًا، يبدو أنه يبتعد عني أكثر.» ابتسم الحكيم وقال: «يا بني، أنت كمن يحمل فانوسًا ويبحث عن الشمس. علامات الحقيقة في داخلك، لا في الأراضي البعيدة. كل ما تريد معرفته، اسأل مرآة قلبك.» استيقظ الشاب بهذه الكلمات وفهم أن طريق معرفة الله يمر عبر معرفة النفس، وأن هذا كان الكنز المخفي في محراب وجوده. ومنذ ذلك الحين، شرع في اكتشاف الذات ووجد السلام الحقيقي. هذه الحكاية تذكرنا بأن الحقيقة أقرب مما نتخيل، وأن الكنز الحقيقي مخبأ في قلب المرء.