يؤكد القرآن أن قيمة الأعمال الدينية تكمن في نيتها الخالصة وجوهرها الباطني، وليس فقط في مظهرها الخارجي. فالتركيز المفرط على الظاهر دون العناية بعمق الإيمان (الإخلاص والتقوى) يمكن أن يجعل الإيمان سطحياً وفارغاً من المعنى، مما قد يؤدي إلى الرياء والنفاق.
في الإجابة على هذا السؤال العميق والتحدي، هل يمكن أن يؤدي التركيز المفرط على المظهر الخارجي للدين إلى تسطيح الإيمان؟ يقدم القرآن الكريم منهجاً شاملاً ومتوازناً. فدين الإسلام، كنظام حياة كامل، يولي اهتماماً خاصاً لكل من البعد الظاهري (الأعمال، المناسك، اللباس) والبعد الباطني (النية، الإخلاص، التقوى، المعرفة). ولكن ما يؤكد عليه القرآن مراراً وتكراراً هو أن القيمة الحقيقية للأعمال والمناسك لا تكمن في شكلها الظاهري بحد ذاته، بل في الروح والنية التي تكمن وراءها. وبدون هذه الروح والنية الصادقة، يمكن للمظهرية البحتة أن تحوّل الإيمان إلى قشرة وجوف فارغ، وهنا يظهر خطر تسطيح الإيمان. يحذر القرآن الكريم صراحة من الرياء (إظهار الأعمال الصالحة لجذب انتباه الآخرين) والنفاق (الازدواجية والتظاهر بالإيمان بينما الكفر مستقر في الباطن). في سورة الماعون، يقول الله تعالى: "فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ" (الماعون، الآيات 4-7). هذه الآيات تحذر بوضوح من أن حتى الصلاة، وهي عمود الدين، إذا أُدّيت بغفلة وللرياء، لا قيمة لها فحسب، بل ويلٌ للمصلين الذين يفعلون ذلك. وهذا يدل على أن العمل الظاهري للصلاة، بدون حضور القلب والنية الخالصة لله، يمكن أن يتحول بسهولة إلى وسيلة للتظاهر والتفاخر، ويبعد الفرد عن حقيقة العبودية. كذلك في سورة النساء، الآية 142، عن المنافقين: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا". تبيّن هذه الآية بجمال كيف أن المنافقين يقومون للصلاة بتكاسل، بقصد إظهار أنفسهم للناس، ولا يذكرون الله إلا قليلاً. هذه الأمثلة توضح بجلاء أن التركيز على الظاهر دون الباطن لا يزيد الإيمان عمقًا بل يفسده. من ناحية أخرى، يؤكد القرآن بشدة على مفهوم "الإخلاص" أو النية الصادقة. في سورة البينة، الآية 5، يقول الله: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ". هذه الآية توضح بجلاء أن جميع الأوامر الإلهية هي لكي يعبد الناس الله بإخلاص وتجرد. إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهما من الأعمال الظاهرية للدين، يجب أن يكونا مصحوبين بالإخلاص. في الحقيقة، كل عمل عبادي، من الصلاة والصيام إلى الحج والصدقة، يكتسب قيمته الحقيقية فقط عندما يتم لوجه الله ودون إشراك أحد آخر في النية. إذا غاب هذا الإخلاص في النية، حتى أعظم الأعمال ستكون بلا تأثير وتتحول مجرد قشرة فارغة من المعنى. التقوى، وهي من أهم المفاهيم القرآنية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا النقاش. فالتقوى، بمعنى خشية الله والورع، هي حالة قلبية تبعد الإنسان عن المعاصي وتدفعه نحو فعل الخيرات. ويشير القرآن في مواضع عديدة إلى أهمية التقوى ويجعلها معياراً لتفضيل الناس. التقوى هي حالة باطنية تنبع منها الأعمال الظاهرية. إذا التزم المرء بالمظاهر الدينية فقط، وافتقر إلى روح التقوى، فقد يقع في فخ العُجب والغرور، ويعتبر نفسه أفضل من الآخرين، في حين أن التقوى الحقيقية تدفع الإنسان إلى التواضع والخشوع. كما يقدم القرآن في سورة البقرة، الآية 177، تعريفاً شاملاً لـ "البِرّ" يتجاوز الأعمال الظاهرية البحتة: "لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ". هذه الآية توضح أن "البر" لا يقتصر على مجرد التوجه نحو القبلة (وهو عمل ظاهري)، بل يشمل الإيمان بأصول الدين، والإنفاق على المحتاجين، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهود، والصبر في الشدائد. هذا التعريف يظهر بوضوح أن التدين الحقيقي هو مجموعة من الإيمان القلبي والأعمال الاجتماعية الصالحة والمناسك العبادية، وكلها يجب أن تكون متوازنة ومتكاملة. فالاهتمام بجانب واحد فقط وإهمال الآخر يمكن أن يؤدي إلى خلل في الإيمان وتسطيحه. باختصار، يعلمنا القرآن الكريم أن الظاهر والباطن في الدين كلاهما مهم، لكن الباطن، أي النية الخالصة والإيمان القلبي، هو أساس وروح التدين. فالأعمال الظاهرية بدون سند باطني، كالجسم بلا روح، لا تسهم في تعميق الإيمان، بل قد توقع الإنسان في فخ الرياء و خداع النفس والغرور. ولتحقيق إيمان عميق ومستدام، يجب أن نسعى دائماً لكي تكون أعمالنا الظاهرية مصحوبة بنيات طاهرة وقلب واعٍ، وأن يكون الهدف النهائي من كل عمل عبادي هو نيل رضا الله والوصول إلى القرب الإلهي، وليس كسب ثناء الناس. هذا التوازن الدقيق والحيوي هو مفتاح النمو والتسامي الروحي في المسار الإلهي، ويمنع الإيمان من أن يصبح سطحياً. على الرغم من أن الالتزام بالمظاهر الشرعية ضروري ومؤكد عليه، إلا أنه يجب ألا نغفل أن هذه المظاهر هي وسائل للوصول إلى الباطن وعمق الإيمان، وليست هدفاً نهائياً. وإذا لم يكن هناك فهم صحيح لهذه العلاقة المتبادلة، يمكن للمرء بسهولة أن يقع في فخ المظاهرية ويبتعد عن حقيقة الدين. لذلك، الإجابة هي نعم، إذا انفصل الاهتمام بظاهر الدين عن روحه وباطنه، وأصبح هو الهدف الأساسي، فقد يؤدي ذلك إلى تسطيح الإيمان. فالهدف الأسمى هو نمو الروح وتساميها والوصول إلى التقوى الحقيقية التي تتجلى في القلب والعمل على حد سواء. وهذا الترابط بين الظاهر والباطن هو ما يضفي العمق على الإيمان ويحميه من أي رياء أو تظاهر.
يُروى أن في مدينة ما، كان هناك رجل مشهور بزهده وورعه. كان دائم التواجد في المسجد، يرتدي ثوبًا فاخرًا، وسبحته لا تفارق يده. وحيثما جلس، كان يدعو بصوت عالٍ وبخشوع مصطنع ليحظى بمدح الناس. لكن في السر، كان قلبه مليئاً بالرغبة في ثناء الناس وغافلاً عن حال اليتامى والفقراء. ذات يوم، مر به شيخ حكيم فرأى الرجل يرفع صوته بالصلاة والناس يمدحونه. ابتسم الشيخ وقال: "يا صاح، هذا الصوت العالي وهذا المظهر الخارجي، إن لم يصحبه قلبٌ منوّر ونيةٌ صافية، فإن قيمته كـنقش على الماء. المزهرية الجميلة، إن لم يكن بداخلها زهر، فهي مجرد وعاء فارغ. روح العبودية تكمن في باطنك، لا في المظهر الخارجي الذي تعرضه للناس." ففكر الرجل في كلام الشيخ وأدرك أن ظاهر الدين كالثوب، إن خلا باطنه من نور الإيمان، فلا يستر جسداً ولا يريح روحاً. ومنذ ذلك الحين، قلل اهتمامه بالظاهر وازداد اشتغاله بباطنه، حتى وجد السكينة الحقيقية.