نعم، يؤكد الإسلام على التوازن بين النجاح الدنيوي ورضا الله. فبالنية الصادقة، والكسب الحلال، والشكر، وخدمة الآخرين، يمكن تحقيق الأمرين معًا.
السؤال عما إذا كان بإمكان المرء أن يحقق النجاح الدنيوي ورضا الله في آن واحد هو سؤال عميق ومحوري في النظرة الإسلامية للعالم. من منظور القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية الأصيلة، ليس هذان الهدفان متناقضين فحسب، بل يمكن دمجهما بانسجام وحتى يكونا متكاملين. الإسلام دين التوازن والاعتدال، فهو لا يدعو إلى الزهد المطلق (التخلي التام عن الدنيا) ولا إلى المادية المطلقة (نسيان الآخرة). بدلاً من ذلك، يدعو إلى طريق الوسط، طريق التوازن والتناسب. هذا التوازن، الذي يُشار إليه غالبًا بـ "الوسطية"، هو جوهر الرؤية القرآنية للحياة. وقد أشار الله تعالى في آيات عديدة من القرآن إلى أن هذه الدنيا هي مزرعة الآخرة، وأن الإنسان يمكنه من خلال أعماله ونواياه الصالحة أن يستفيد من نعم الدنيا ويدخر في نفس الوقت الأجر الأخروي. هذه النظرة الشاملة تشجع المؤمنين على أن يكونوا فعالين وديناميكيين في حياتهم الدنيوية، ولكن دون أن يغفلوا أبدًا عن الهدف النهائي: رضا ربهم ونيل السعادة الأبدية. يظهر هذا التوازن كمال تعاليم الإسلام التي تولي اهتمامًا لجميع أبعاد وجود الإنسان، المادية والروحية. القرآن الكريم يذكر صراحة أن الإنسان يمكنه ويجب عليه أن يستمتع بنعم هذه الدنيا، ولكن هذا الاستمتاع يجب ألا يصرفه عن هدفه الأسمى من الخلق. يقول الله تعالى في سورة القصص، الآية ٧٧: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ». هذه الآية الكريمة توفر إطارًا كاملاً لحياة متوازنة: الهدف الأساسي هو الآخرة، ولكن للدنيا نصيبها أيضًا. كسب الرزق الحلال، والسعي لتحسين الحياة، والاستفادة من النعم الإلهية، ليس ممنوعًا فحسب، بل هو مُشجَّع ومؤكد بشروط معينة. النجاح الدنيوي في الإسلام لا يقتصر فقط على جمع الثروة. بل يشمل أي تقدم وإنجاز يؤدي إلى خير الفرد والمجتمع ورفاهيتهما؛ بدءًا من النجاح في العلوم والمعرفة إلى الكفاءة في مهنة أو تجارة، ومن صحة الأسرة وسلامها إلى لعب دور اجتماعي فعال. يؤدي هذا النجاح الدنيوي إلى رضا الله عندما يُسعى إليه بنية إلهية خالصة وضمن إطار القيم والقوانين الإسلامية. كيف يؤدي النجاح الدنيوي إلى رضا الله؟ 1. النية الإلهية (قصد القربة): كل عمل، بما في ذلك السعي وراء الرزق والنجاح، إذا تم بنية التقرب إلى الله وأداء واجب إلهي، يتحول إلى عمل عبادة. عندما يعمل الفرد بجد لتوفير لقمة العيش الحلال لأسرته، أو يلتزم بأقصى درجات الأمانة والنزاهة في مهنته لكسب رضا الله، فإن هذه الأنشطة نفسها تعتبر أعمال عبادة عظيمة. هذه النية الصادقة تمنح أنشطتنا اليومية معنى وقيمة روحية. 2. الالتزام بالحلال والحرام: يجب أن يتحقق النجاح الدنيوي بوسائل مشروعة وحلال. الابتعاد عن الربا، الغش، الظلم، الاحتكار، وأي كسب غير مشروع، هو شرط أساسي لبركة الثروة والنجاح وصلاحها. الدخول غير المشروعة لا يمكن أن تؤدي أبدًا إلى رضا الله، حتى لو كانت ذات أهمية مالية كبيرة. فالله لا يبارك إلا الرزق الطيب الحلال. 3. الشكر واليقظة: يجب ألا تؤدي الإنجازات والمكاسب الدنيوية إلى الغفلة أو نسيان الله. في سورة النور، الآية ٣٧، يصف الله رجالًا نبلاء: «رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۚ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ». تشير هذه الآية إلى أن الأعمال التجارية والتجارة المشروعة لا تتعارض مع الذكر والعبادة؛ بل المؤمن الحقيقي هو الذي لا ينسى الله حتى في ذروة النجاحات الدنيوية. شكر النعم، واستخدامها بشكل صحيح، والاعتراف بأن كل شيء يأتي من فضل الله، يضمن الاستمرارية والبركة، ويؤدي إلى رضا الله. 4. الإنفاق ومساعدة الآخرين: الثروة والقوة الدنيوية، إذا استُخدمت في خدمة خلق الله، لتخفيف احتياجات الفقراء، وتعزيز العدالة، والنهوض بالمجتمع، فإنها تمثل رضا الله. الزكاة، الصدقات، الأوقاف، وأي شكل من أشكال الإحسان، هي وسائل لتطهير الثروة والتقرب إلى الله. قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): «خير الناس أنفعهم للناس». هذا الكرم والعطاء يزيدان من بركات الله ويملآن قلب الإنسان بالسلام. 5. عدم التعلق والترابط المفرط: النجاح الدنيوي مباح، ولكن التعلق المفرط بهذه الدنيا ونسيان الآخرة يمكن أن يحرف الإنسان عن الطريق الصحيح. يجب أن تكون الدنيا في يد الإنسان، لا في قلبه. يجب أن يُنظر إليها كوسيلة لتحقيق أهداف نبيلة، لا غاية بحد ذاتها. قال الإمام علي (عليه السلام): «الدنيا مزرعة الآخرة»، وهذا يعني أنه يجب على المرء أن يزرع الأعمال الصالحة في هذه الدنيا ليحصد ثمارها في الآخرة. هذا عدم التعلق يساعد الإنسان على الحفاظ على هدوئه حتى في مواجهة الخسائر. 6. الصبر في الشدائد والشكر في الرخاء: طريق النجاح الدنيوي لا يخلو من التحديات. من يتوكل على الله ويصبر في هذه الرحلة، ويشكر الله عند تحقيق النجاح، ينال رضا الله. هذا الصبر والشكر يظهران عمق الإيمان والتوكل على قوة الله الأبدية. 7. السلامة الروحية والأخلاقية: يجب ألا تؤدي النجاحات الدنيوية إلى الغرور أو الكبر أو الحسد أو انتهاك حقوق الآخرين. الحفاظ على التواضع، والعدل، وحسن الخلق، وروح الخدمة، هي علامات على تحقيق النجاح المقترن برضا الله. الأخلاق الحسنة والسلوك العادل هما رأس مال المؤمن في الدارين. في الواقع، نمط حياة المسلم الناجح هو نمط حياة الفرد الشامل الذي ينجح في أبعاد حياته المادية والروحية على حد سواء. فهو يستخدم ذكائه ومواهبه وجهوده للتقدم في هذه الدنيا، ولكنه يجعل هذا التقدم جسرًا للوصول إلى قرب الله. إنه يدرك أن كل ما يمتلكه هو أمانة من الله ويجب استخدامه بأفضل طريقة ممكنة. يستخدم ثروته لنشر الخير وقوته لإقامة العدل. لقد كان العديد من علماء الإسلام وقادته الكبار أمثلة بارزة على هذا الجمع بين النجاح الدنيوي ورضا الله. فبينما كانوا متفوقين في العلوم أو التجارة أو الحكم، كانوا أيضًا عبادًا ورعين بالليل وعاملين دؤوبين بالنهار، ولم يغفلوا أبدًا عن ذكر الله. هذا يدل على أن تحقيق الأمرين ليس ممكنًا فحسب، بل مرغوب فيه وهو جوهر الكمال الإنساني. لذلك، وبكل ثقة، يمكن تأكيد أنه نعم، يمكن للمرء أن يحقق النجاح الدنيوي ورضا الله. الشرط هو ألا نجعل النجاح الدنيوي هو الهدف النهائي، بل وسيلة لتحقيق رضا الله؛ يجب أن يتم الحصول عليه بنية صافية، وبوسائل مشروعة، ولصالح الفرد والمجتمع، دون نسيان ذكر الله وواجباتنا الروحية. وبهذه الطريقة، ستتحقق الدنيا والآخرة للمؤمن، وستكون السعادة الحقيقية في كلا الدارين من نصيبه.
يُروى أنه كان في مدينة شيراز تاجر اسمه "صالح". كان صالح يمارس التجارة في السوق وقد جمع ثروة طائلة، لكنه لم يغفل قط عن ذكر الله. كل صباح قبل شروق الشمس، كان يذهب إلى المسجد ويصلي، وعندما يحين الظهر، أينما كان، كان يتوقف عن عمله ويتجه إلى الله تعالى. فقيل له: "يا صالح، كيف لك أن تكون بهذا القدر من الثروة والانشغال، وقلبك دائمًا يذكر الله؟" ابتسم صالح وقال: "هذه الدنيا كجسر للعبور؛ إن بنيت عليها بيتًا، فلن تصل أبدًا إلى وجهتك. أنا أجمع على هذا الجسر زادًا لرحلة الآخرة، وبهذه الفكرة، لا تخدعني الدنيا ولا أفقد الآخرة." ويُحكى أن صالح، بماله الحلال، أعان كثيرًا من الفقراء وبنى المدارس، وطوال حياته، كان موضع احترام الناس ويتمتع بالسلام الداخلي. وهكذا كان أنه نال النجاح الدنيوي ورضا ربه.