نعم، القرآن مصدر عميق لمعرفة الذات، فهو يساعدنا على فهم كرامتنا الفطرية، ونقاط قوتنا وضعفنا، وطريق التزكية من خلال شرح خلق الإنسان وهدفه وأبعاد النفس. وفي النهاية، يؤدي هذا إلى معرفة خالقنا، مما يمهد الطريق للسلام الداخلي والارتقاء الروحي.
بلا شك، القرآن الكريم ليس فقط كتاب هداية إلهية للحياة البشرية، بل هو أيضاً مصدر فريد وعميق للوصول إلى معرفة الذات الحقيقية. تحظى معرفة الذات بأهمية قصوى في الثقافة الإسلامية والقرآنية؛ لدرجة أن الأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) تقول: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»؛ أي «من عرف ذاته فقد عرف ربه». يوضح هذا الحديث الشريف بوضوح أن طريق معرفة الله (معرفة الخالق) يمر عبر معرفة النفس (معرفة الذات). من خلال توضيح خلق الإنسان، ومكانته في الوجود، وفطرته الإلهية، ونقاط قوته وضعفه، ومسؤولياته، والهدف النهائي للحياة، يوفر القرآن طريقاً واضحاً لمعرفة الأبعاد الوجودية للذات. هذه المعرفة ليست مجرد معرفة ذهنية، بل هي معرفة عميقة تؤدي إلى تحول داخلي ونمو روحي. يتناول القرآن معرفة الإنسان من زوايا متعددة. من أهم المحاور هو تناول خلق الإنسان. ففي آيات متعددة، يشير الله إلى كيفية خلق الإنسان من تراب، ونفخ الروح الإلهية فيه، ومكانته الرفيعة بين المخلوقات. على سبيل المثال، في سورة التين، الآية 4، يقول الله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»؛ أي «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم». تدل هذه الآية على الكرامة المتأصلة للإنسان وإمكانياته اللانهائية. معرفة هذه الكرامة والمكانة تحرر الإنسان من الغفلة والتقليل من شأنه، وتدفعه نحو اكتشاف مواهبه الإلهية. كما يصف القرآن الإنسان بـ «خليفة الله» على الأرض (البقرة، الآية 30)، وهذا الدور يعني تحمل المسؤولية تجاه النفس والآخرين والبيئة. يساعد فهم هذا الدور الإنسان على إيجاد هدف سامٍ لحياته وتنظيم وجوده بناءً على هذا الهدف الإلهي. يتناول القرآن أيضاً جوانب مختلفة من النفس البشرية. يعتبر هذا الكتاب الإلهي النفس ذات أبعاد متعددة؛ من النفس الأمارة التي تأمر بالسوء، إلى النفس اللوامة التي تلوم الإنسان على أخطائه، وصولاً إلى النفس المطمئنة التي تصل إلى السكينة والطمأنينة الإلهية. يوفر هذا التصنيف إطاراً لفهم الصراعات الداخلية للإنسان ومسار تطوره الروحي. تشير آيات سورة الشمس، وخاصة الآيات من 7 إلى 10، صراحة إلى هذا الموضوع: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾»؛ أي «ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها». تشير هذه الآيات إلى أن الإنسان يواجه قوتين داخليتين، الخير والشر، وأن خلاصه يكمن في تزكية وتطهير نفسه. يتطلب هذا المسار من التزكية معرفة دقيقة بالذات ووعياً بالميول الداخلية. علاوة على ذلك، يدعو القرآن الناس إلى البحث عن آيات الله ليس فقط في الآفاق (العالم الخارجي) بل أيضاً في الأنفس (داخلهم). ففي سورة الذاريات، الآيات 20 و 21، يقول الله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴿٢١﴾»؛ أي «وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟». تُعد هذه الدعوة إلى التأمل الداخلي إحدى أقوى أدوات القرآن لمعرفة الذات. من خلال التأمل في تعقيدات جسم الإنسان، وعمل العقل والقلب، والمشاعر والعواطف الداخلية، يمكن للمرء أن يدرك عظمة الخلق والحكمة الإلهية، وهذا الإدراك بحد ذاته خطوة كبيرة نحو فهم مكانة الإنسان وحقيقته الوجودية. كما يساعد القرآن في معرفة الذات من خلال تقديم صورة واقعية لنقاط ضعف الإنسان وقابليته للتأثر. فالآيات التي تشير إلى عجلة الإنسان، وكفره، وطمعه، وظلمه، ليست لليأس، بل للتوعية وتصحيح المسار. يدعو هذا الإدراك للضعف الإنسان إلى التواضع، والاستغفار، والسعي نحو الكمال. وإلى جانب نقاط الضعف هذه، يؤكد القرآن على قدرات الإنسان على الاختيار، والصبر، والشكر، والتوبة، والإيمان، ومن خلال سرد قصص الأنبياء والأولياء، يقدم نماذج للنمو والارتقاء. في النهاية، معرفة الذات القرآنية تعني فهماً أعمق لعلاقة الإنسان بالله. فكلما عرف الإنسان نفسه بشكل أفضل – كمخلوق يعتمد على خالقه، محتاج إليه، ومسؤول أمامه – كلما اقترب من العبودية الخالصة والقرب الإلهي. هذه المعرفة بالذات هي المفتاح لتحقيق السلام الداخلي والسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، لأنها تربط الإنسان بمنبع الوجود والهدف الأسمى للخلق. لذلك، القرآن ليس مجرد أداة لمعرفة الذات، بل هو خارطة طريق شاملة وخالية من العيوب لاجتياز هذا المسار المبارك، يدعو كل قارئ للتأمل في ذاته والعالم والوصول إلى درجات أعلى من المعرفة والكمال.
يُروى أن أحد الحكماء الكبار كان له تلميذ دائم البحث عن الكنوز والجواهر في الأراضي البعيدة. ذات يوم، قال له الأستاذ: «يا بني، لقد سافرت كثيراً ورأيت الكثير، ولكن هل سافرت يوماً في داخلك؟» سأل التلميذ بدهشة: «هل هناك كنز في الداخل أيضاً؟» ابتسم الأستاذ وقال: «نعم، كنز أعظم بكثير مما يوجد في التراب والبحر. اذهب واقضِ وقتاً في خلوة مع نفسك؛ لا تبحث عما لا تملكه، بل انظر إلى ما أنت عليه.» اتبع التلميذ نصيحة الأستاذ، ومن خلال التأمل في روحه، أدرك نقاط ضعفه وقوته، وفهم أن السلام والمعرفة الحقيقيين لا يوجدان في السعي الخارجي، بل في اكتشاف الحقيقة داخل ذاته. أدرك أن الكنز الحقيقي هو معرفة الذات وربها، التي كانت مخبأة في أعماق كيانه.