محبة الله لا تقتصر على كثرة العبادات الظاهرية؛ فالنية الصادقة، والأخلاق الحسنة، والأعمال الصالحة تلعب دوراً حاسماً في نيل محبته، على الرغم من أن العبادات الواجبة هي أعمدة الدين.
إن السؤال عما إذا كان الشخص الذي لا يعبد كثيراً يمكن أن يكون محبوباً عند الله يلامس جانباً عميقاً من فهمنا للعلاقة بين العبد وخالقه. للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعود إلى روح التعاليم القرآنية وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. قد يقتصر الفهم الشائع لـ "العبادة" على أفعال محددة مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة. لا شك أن هذه الأركان هي أساس الدين وأعمدة الإيمان، وكل مسلم مكلف بأدائها. يؤكد القرآن الكريم بوضوح على الأهمية القصوى لهذه العبادات، ويعتبرها وسيلة للتقرب إلى الله وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة. ولكن، هل محبة الله مقتصرة فقط على كمية أداء هذه الفرائض الظاهرية؟ إن إجابة القرآن والتعاليم الإسلامية تكشف أبعاداً أعمق لمفهوم "العبادة" و"المحبة الإلهية". يصف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بصفات مثل "الرحمن" (واسع الرحمة)، و"الرحيم" (كثير الرحمة)، و"الودود" (كثير الود والحب). تشير هذه الصفات إلى اتساع رحمة الله ومحبته اللامتناهية التي تشمل جميع المخلوقات. محبة الله لعباده لا تقتصر فقط على من يؤدون العبادات بكثرة. في الحقيقة، "العبادة" في الرؤية القرآنية الشاملة لا تقتصر على الصلاة والصيام. فكل عمل خير يُؤدى بنية خالصة ابتغاءً لمرضاة الله يعتبر عبادة. وهذا يشمل: * الأخلاق الحسنة والسلوك القويم: يؤكد القرآن مراراً وتكراراً على أهمية الإحسان والعدل والصدق والأمانة والصبر والعفو والصفح. على سبيل المثال، في سورة البقرة (الآية 195)، يقول الله تعالى: "وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (وأحسنوا؛ إن الله يحب المحسنين). و"المحسنون" هم الذين يتجاوزون مجرد أداء الواجبات إلى فعل الخيرات والبر. وهذا يشمل اللطف بالعائلة، ومساعدة الجيران، ودعم الفقراء واليتامى، ومراعاة حقوق الآخرين، وحتى الرحمة بالحيوان. * التقوى وخشية الله: تشير التقوى إلى اجتناب المحرمات والقيام بما أمر الله به، ليس فقط في العبادات الظاهرية، بل في جميع شؤون الحياة. فالشخص الذي يبتعد عن محارم الله ويسعى لطهارة روحه وجسده، يكون محبوباً عند الله. في سورة آل عمران (الآية 76)، يقول تعالى: "بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ" (بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين). * التوبة والعودة إلى الله: حتى الذين ارتكبوا الذنوب أو قصروا في عباداتهم، إذا رجعوا إلى الله بندم وتوبة صادقة، فإنهم يحظون بمحبته. تقول سورة البقرة (الآية 222): "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ" (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين). هذا يوضح أن باب العودة واكتساب محبة الله مفتوح حتى بعد ارتكاب الأخطاء. * النية الصادقة والقلب السليم: لا ينظر الله إلى ظاهر أعمالنا، بل إلى نياتنا وإخلاص قلوبنا. في بعض الأحيان، يكون لعمل صغير يُؤدى بنية خالصة وقلب سليم قيمة أكبر بكثير عند الله من عبادات لا تُعد ولا تُحصى خالية من الروح والنية الصادقة. قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". لذلك، فإن الفرد الذي قد يقصر قليلاً في العبادات الظاهرية مثل الصلاة والصيام لأسباب معينة (علماً بأن ترك الواجبات بدون عذر شرعي ذنب كبير يتطلب التوبة)، ولكنه في المقابل يتمتع بأخلاق فاضلة، ويقدم الخير للآخرين، ويراعي حقوق الناس، ويتجنب الكذب والغيبة، ويصبر، ويسعى باستمرار لتحسين نفسه وابتغاء مرضاة الله، يمكن بالتأكيد أن يكون محل محبة خاصة من الله. ينظر الله إلى عبده المجتهد صاحب الأخلاق الحسنة، حتى لو لم تكن سجادته ممتدة بقدر الآخرين. هذا لا يعني التقليل من أهمية العبادات الواجبة، بل هو تأكيد على أن الدين لا يقتصر على الطقوس فحسب، وأن المحبة الإلهية تتجاوز كمية الأعمال الظاهرية لتشمل جودة القلب، والنية، واتساع نطاق أعمال الخير في الحياة اليومية. في الختام، يمكن القول إن الله تعالى إله محبته شاملة، وينظر إلى القلوب والنيات والأعمال الشاملة لعباده. ومع أن العبادات الرسمية هي أركان الدين وتركها ذنب عظيم، إلا أن الشخص الذي يتمتع، إلى جانب ذلك، بصفات أخلاقية حميدة وأعمال صالحة، وقلبه مفعم بالحب لله ولخلقه، يمكن أن يحظى بالمحبة الإلهية بفضل هذه الصفات النبيلة. هذا المنظور يفتح باب الأمل والرحمة الإلهية للجميع، ويظهر أن طريق الوصول إلى الله لا يمر عبر مسار واحد محدود، بل يمكن الوصول إلى المحبة الإلهية بكل نية صادقة وكل عمل خير يُؤدى في سبيله.
في قديم الزمان، عاش في مدينة صاخبة جارين. أحدهما كان ناسكاً ورعاً، يُرى دائماً يؤدي العديد من الصلوات في المسجد، لكنه نادراً ما كان يلتفت إلى محنة جيرانه وكانت كلماته غالباً حادة. والآخر كان عاملاً بسيطاً، ربما أقل تكراراً في صلواته النوافل، لكنه كلما رأى جاراً في حاجة، كان يقدم المساعدة دون تردد، ويساعد الفقراء، ولم يكسر قلباً قط. ذات ليلة، رأى عالم رباني في منامه: في الحضرة الإلهية، كان مكان العامل البسيط أعلى من مكان الزاهد العابد. عند استيقاظه، اندهش العالم. فذهب إلى العامل وسأله عن حياته، واكتشف أنه يعيش بنوايا نقية وقلب طيب، ويسعى دائماً لتخفيف أعباء الآخرين. فأدرك العالم أن الله لا ينظر إلى ظاهر الأعمال، بل إلى النوايا الطاهرة والقلوب الخيرة.