يساعد القرآن على تنمية حب الذات من خلال التأكيد على الكرامة الإنسانية المتأصلة، وهدف الخلق، وأهمية تزكية النفس. فهو يرشدنا لتقدير ذواتنا ليس من باب النرجسية، بل من خلال إدراك قيمتنا الإلهية، ويشمل ذلك مسامحة الذات، والصبر، والشكر، والسعي للنمو الروحي، مما يؤدي إلى السلام الداخلي وتقدير الذات الدائم.
هل يمكن للقرآن أن يساعدني على حب الذات؟ هذا السؤال، الذي يتجذر بعمق في الوجود الإنساني، يتناول أحد أهم جوانب الصحة الروحية والنفسية: علاقة الفرد بنفسه. للوهلة الأولى، قد لا يُعثر على مصطلح "حب الذات" أو "Self-Love" بمعناه النفسي الحديث صراحةً في آيات القرآن؛ ولكن بالتعمق في المفاهيم والتعاليم القرآنية، نكتشف أن القرآن الكريم يوفر أسسًا عميقة وشاملة لتكوين علاقة صحية، متوازنة، ومثمرة مع الذات. هذه العلاقة لا تقوم على النرجسية أو الغرور، بل على احترام الذات كخليفة لله في الأرض، وتحمل المسؤولية تجاه النفس، والسعي لتزكيتها ونموها الروحي. يبدأ القرآن بالتأكيد على الكرامة المتأصلة للإنسان. ففي سورة الإسراء، الآية 70، يقول الله تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً). هذه الآية تعبر بوضوح عن أن الله قد خلق الإنسان بكرمة متأصلة. هذه الكرامة ممنوحة له من الخالق، وليست شيئًا يجب على الإنسان أن يكسبه. هذه الحقيقة الأساسية هي الخطوة الأولى والأكثر أهمية نحو تنمية الشعور الداخلي بالقيمة الذاتية. عندما نعلم أننا خلقنا من قبل خالق الكون، بكل هذه السمات الفريدة (العقل، الإرادة الحرة، القدرة على التعلم، إلخ)، وقد تم تفضيلنا على كثير من خلقه، فكيف يمكننا أن نعتبر أنفسنا بلا قيمة؟ هذه النظرة توفر أساسًا لقبول الذات بكل نقاط قوتها وضعفها. نقطة أخرى هي الهدف من خلق الإنسان. يقول القرآن في سورة الذاريات، الآية 56: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). العبادة هنا لا تعني فقط أداء الشعائر التعبدية، بل تعني العيش وفقًا لرضا الله، ومعرفته، والسعي للوصول إلى الكمال. عندما يجد الإنسان هدفًا ومعنى ساميًا لوجوده، يختفي شعور الفراغ واللامعنى الذي غالبًا ما يؤدي إلى تدني تقدير الذات. معرفة أن كل لحظة في الحياة هي فرصة للتقرب إلى الله وتحقيق رسالته الإلهية، يضفي قيمة وثراءً على حياة الفرد ويمكّنه من رؤية نفسه ليس فقط ككائن فانٍ، بل كروح ذات إمكانيات لا حصر لها للنمو والسمو. هذه البصيرة تمنح الإنسان القدرة على حب ذاته ليس بناءً على إنجازات خارجية، بل بناءً على هدفه النبيل الكامن. يؤكد القرآن بشكل كبير على أهمية "تزكية النفس" أو تهذيب الذات. ففي سورة الشمس، الآيتان 9 و10، يقول: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). تشير هذه الآيات إلى أن الفلاح والنجاح الحقيقي في الدنيا والآخرة يعتمد على تطهير الروح من الرذائل الأخلاقية وتزيينها بالفضائل. تتطلب عملية تهذيب الذات هذه معرفة نقاط الضعف والقوة، والسعي لتصحيح الأخطاء، والتحرك نحو الكمال. هذا النهج، على عكس النقد الذاتي الهدام، هو نهج بناء يدفع الفرد نحو التحسين المستمر وينعش فيه شعور التقدم والقدرة. عندما يسعى الإنسان ليكون أفضل نسخة من نفسه، فإن هذا الجهد يؤدي تلقائيًا إلى تقدير الذات والشعور بالجدارة. إن مسار التزكية هذا لا يعني رفض الذات الحقيقية، بل تنقيتها للوصول إلى أعلى الإمكانات البشرية التي أودعها الله في الإنسان. علاوة على ذلك، يلعب مفهوم التوبة والأمل في رحمة الله دورًا حيويًا في تعزيز حب الذات الصحي. ففي كثير من الأحيان، يمنع النقد الذاتي المفرط والشعور بالذنب بسبب أخطاء الماضي الإنسان من حب نفسه. يقول القرآن في سورة الزمر، الآية 53: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم). هذه الآية تمنح الإنسان الأمل بأنه مهما كانت ذنوبه، فإن باب رحمة الله مفتوح. يساعد هذا المفهوم الفرد على مسامحة نفسه عن أخطاء الماضي والعيش بنظرة متجددة نحو المستقبل وبأمل في التحسن. مسامحة الذات هي أحد الأركان الأساسية لحب الذات، وبدونها، يغرق الإنسان في مستنقع الندم والنقد الذاتي. يسمح هذا العزاء الإلهي للأفراد برفع عبء الذنوب عن كاهلهم والتحرك نحو النمو وقبول الذات بروح أخف. الصبر والشكر هما أيضًا من المفاهيم القرآنية الأخرى التي تساعد على تقوية حب الذات. يوصي القرآن المؤمنين بالصبر على مشاق الحياة ومصائبها. الصبر ليس مجرد مقاومة للصعوبات، بل هو قبول للقضاء الإلهي والثقة بحكمته. يجلب هذا النهج السلام الداخلي ويمكّن الفرد من الإيمان بنفسه وقدراته حتى في الظروف الصعبة. وبالمثل، فإن الشكر على نعم الله التي لا تحصى، بما في ذلك التنفس، والصحة، والمواهب، يجعل الفرد يركز أكثر على ما يمتلكه بدلاً من ما يفتقده. تساعده هذه النظرة الإيجابية على رؤية نفسه كشخص قيم ومحظوظ بنعمة الله. عندما يكون المرء شاكراً على النعم التي أنعم الله بها عليه (مثل العقل، الجسد السليم، الفرص)، فإن شعور القيمة الذاتية وحب الذات يتوطدان فيه بشكل طبيعي. إن هذا الشعور بالامتنان يمهد الطريق للرضا عن النفس وفهم أعمق لمكانة الفرد في الوجود. كما يؤكد القرآن على الاعتدال وتجنب الإفراط والتفريط في جميع الأمور، بما في ذلك علاقة الفرد بنفسه. فلا الغرور والتكبر مقبولان (لأنهما يبعدان الإنسان عن الحقيقة) ولا تدني تقدير الذات واحتقارها (لأنهما يمنعان الإنسان من تحقيق إمكاناته الإلهية). الطريق الصحيح هو الوسطية: معرفة مكانة الذات الحقيقية في الوجود كعبد لله، جنبًا إلى جنب مع الوعي بالقدرات والكرامة التي منحها الله له. تساعد هذه النظرة المتوازنة الأفراد على التعامل مع أنفسهم بواقعية، والتعرف على نقاط قوتهم وتطويرها، وفي الوقت نفسه، قبول عيوبهم بتواضع والسعي لإصلاحها. هذا التوازن هو حجر الزاوية لحب الذات المستدام والبناء، ويمنع الوقوع في فخ الأفكار السلبية أو النرجسية. أخيرًا، يعلم القرآن الإنسان أن حب الله تعالى هو أساس جميع أنواع الحب. عندما يحب الإنسان خالقه ويجعل رضاه هدف حياته، فإنه في الواقع يوجه نفسه نحو الكمال وأعلى أشكال وجوده. هذا السعي نحو الكمال ليس بدافع الأنانية، بل بدافع الرغبة في القرب من الله وتجلي الصفات الإلهية في ذاته. هذا المسار يؤدي بشكل طبيعي إلى زيادة تقدير الذات وحبها كوعاء لتجلي النور الإلهي. حب الذات في المنظور القرآني ليس مرادفًا للنرجسية، بل يعني تقدير الأمانة التي أودعها الله في الإنسان: الجسد، الروح، العقل، وجميع القدرات. الحفاظ على هذه الأمانات، واستخدامها بشكل صحيح في طريق الكمال ورضا الله، والعناية بالصحة الروحية والجسدية للنفس، كلها مظاهر من مظاهر حب الذات القرآني. وبالتالي، من خلال التأمل في الآيات الإلهية والعمل بتعاليمها، يمكن للفرد أن يحقق السلام الداخلي بالمعنى الحقيقي للكلمة، وأن يحب نفسه بكل وجوده، لأنه يعلم أنه مخلوق كريم من خالق لا نهاية لرحمته وحكمته. هذه النظرة العميقة والشاملة توفر أساسًا متينًا لحياة مليئة بالإنجازات ومليئة بالثقة بالنفس والأمل.
يُروى أن درويشًا قد اعتزل الناس والدنيا. جاء إليه مريد وسأله: «يا شيخ، أنت الذي حُرمت من نعيم الدنيا، كيف لك هذا الهدوء ولا تحزن؟» ابتسم الدرويش وقال: «أنا لا أقيس نفسي بما فقدت، بل بما أعطاني الله. كلما استيقظت، علمت أن الله قد أنعم علي بنعمة الوجود، والعقل، وفرصة العبادة. هذه الأشياء ثمينة جدًا لدرجة أنني لو حُرمت من الدنيا بأسرها، سأظل أرى نفسي الأغنى والأكثر سعادة، لأن قيمتي عند ربي، وليست فيما أمتلك من الدنيا.» بهذه الكلمات، أدرك المريد المعنى الحقيقي لحب الذات وتقديرها، وعاد بقلب أكثر إشراقاً.