نعم، إذا لم تكن النية خالصة ولم تتطهر النفس من آفات الغرور، فإن العبادة نفسها يمكن أن تتحول إلى مصدر للكبر بدلًا من التواضع. القرآن الكريم يذم الغرور بشدة ويؤكد على الإخلاص كجوهر للعبادة لمنع هذه الآفة الروحية.
تُعَدّ العبادة من أسمى الأعمال التي تقرب الإنسان من خالقه، وهي في جوهرها فعلٌ من أفعال التواضع والخضوع لله سبحانه وتعالى، واعترافٌ بالعبودية والافتقار إليه. الهدف الأساسي من العبادة هو تزكية النفس وتطهير الروح والوصول إلى السكينة والطمأنينة القلبية. ومع ذلك، يبرز تساؤل مهم: هل يمكن لهذا العمل المقدس، بدلًا من أن يقود الإنسان إلى التواضع، أن يتحول إلى مصدر للغرور والعُجب؟ الإجابة القاطعة من القرآن الكريم والتعاليم الإسلامية هي نعم، إذا لم يكن قلب الإنسان نقيًا من آفات النفس، فإن العبادة نفسها يمكن أن توفر بيئة خصبة لنمو الغرور والكبر. هذا التحول لا ينبع من العبادة في ذاتها، بل من عيوب وأمراض داخلية في النفس البشرية. القرآن الكريم يذمّ الغرور والكبر بشكل صريح وشديد، ويعتبرهما من أكبر العوائق أمام معرفة الله والتقرب إليه. لقد كان الكبر صفة إبليس اللعين الذي منعه من السجود لآدم عليه السلام. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 34: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ"؛ أي: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين." هذه الآية تبين أن أصل عصيان إبليس وتمردّه لم يكن نقصًا في قدرته، بل كان نابعًا من تعظيمه لذاته وشعوره بالتفوق. فقد رأى نفسه أفضل من آدم لأنه خلق من نار، بينما آدم خلق من طين. وهذا مثال واضح على أن كائنًا قضى سنوات في عبادة الله وطاعته، يمكن أن يُطرد من رحمة الله بسبب الكبر. بالإضافة إلى ذلك، يحذر القرآن في آيات عديدة أخرى الإنسان من الكبر. ففي سورة لقمان، الآية 18، يقول تعالى: "وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"؛ أي: "ولا تمل خدك للناس تكبرا وإعجابا، ولا تمش في الأرض متكبرا متبخترا، إن الله لا يحب كل متكبر فخور." هذه الآية تشير بوضوح إلى الإعجاب بالنفس والتفاخر (وهما من مظاهر الغرور) وتنددهما. فالعبادة التي تؤدي بالإنسان إلى الشعور بالتفوق على الآخرين أو تضخيم أعماله، قد انحرفت عن مسارها الصحيح. كيف يمكن أن تتحول العبادة إلى غرور؟ يحدث هذا التحول بعدة طرق: 1. الرياء والتظاهر: عندما يقوم الفرد بالعبادة لا ابتغاء وجه الله، بل لجلب ثناء الناس وإعجابهم. في هذه الحالة، لا تكون نية العبادة خالصة، وتُدفع النفس نحوها رغبةً في المديح. يقول الله تعالى في سورة البينة، الآية 5: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ"؛ أي: "وما أمروا في كل الشرائع إلا بعبادة الله وحده، مخلصين له الطاعة، مائلين عن الشرك، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك هو الدين المستقيم." الإخلاص هو جوهر العبادة، وغيابه يجعل العبادة بلا أثر بل وقد تكون ضارة، حيث تتحول إلى مجرد استعراض لا قيمة له عند الله. 2. العُجب والإعجاب بالنفس: بعض الأفراد، بعد أداء عبادات كثيرة، يصابون بالعجب؛ أي يستعظمون أعمالهم ويفتخرون بها. هذا الإعجاب بالنفس يجعل الفرد يشعر بأنه يستحق المكافأة ويغفل عن أي نقص أو تقصير محتمل منه. هذه الحالة هي مقدمة للغرور والكبر. العُجب يمنع الإنسان من رؤية عيوبه وطلب المغفرة، لأنه يعتقد أنه قد أتى بكل ما عليه وزيادة. 3. الشعور بالتفوق على الآخرين: العبادة التي تؤدي إلى نظرة احتقار تجاه الآخرين الذين قد يكونون أقل عبادة أو يبدون أكثر خطيئة في نظرنا، هي علامة على غرور خفي. هذا النوع من الغرور خطير جدًا، لأن الفرد يظن أنه قد اكتسب مكانة أعلى من الآخرين بعبادته، فيبدأ في الحكم عليهم. العبادة الحقيقية ينبغي أن تجعل المرء متواضعًا ورحيمًا، لا حكمًا على الآخرين، فالله وحده هو عالم الغيب والشهادة وهو أحكم الحاكمين. 4. نسيان مصدر التوفيق: كل عمل صالح يصدر من الإنسان هو من توفيق الله له. إذا نسي الفرد أن توفيق العبادة وفعل الخير هو من عند الله، ونسبه بالكامل إلى قدراته الشخصية، فقد وقع في الغرور. هذا الغفلة عن فضل الله وكرمه هي أساس العديد من الانحرافات الروحية. يجب على العبد أن يدرك دائمًا أن قدرته على العبادة هي بفضل الله ومنّته، وليس بجده وكدّه فقط، مما يزيد من شكره وتواضعه. لتجنب هذه الآفة، يجب على المرء أن يمارس التواضع باستمرار، وأن يلتزم بالإخلاص في النية، وأن يرى نفسه دائمًا صغيرًا وضعيفًا أمام عظمة الله وجلاله. تذكر أن جميع أعمالنا، مهما كانت حسنة، لا تُقبل إلا بفضل الله ورحمته، يمكن أن يكون حاجزًا قويًا ضد الغرور. كذلك، يجب دائمًا تجنب الحكم على الآخرين وبدلًا من ذلك التركيز على إصلاح النفس. فالعبادة الصادقة تؤدي إلى خشوع القلب، وزيادة محبة الله، والخدمة الخالصة للخلق، ولا تدفع الإنسان أبدًا إلى هوة الغرور، بل ترتقي به في درجات الإيمان وتعزز فيه الصفات النبيلة وتجعله أكثر قربًا إلى خالقه وإلى عباده.
يروى في گلستان سعدي أن عابدًا زاهدًا كان مشغولًا بالعبادة ليلًا ونهارًا، ومن أجل ذلك كان يفتخر على الآخرين. في أحد الأيام، مر بطريق فرأى لصًا جالسًا عند بئر يبكي. فقال العابد له بغرور: «أيها المذنب، انظر! لقد قضيت عمري في الطاعة وأنت في المعصية. فكم الفرق بين حالي وحالك!» رفع اللص رأسه وقال: «أيها الشيخ! أنت تفتخر بطاعتك وأنا أبكي على ذنوبي. ربما من هذا البكاء يُفتح لي باب من الرحمة لن يُفتح أبدًا من افتخارك. لقد حرمت نفسك من رحمة الله بكبرك، وربما أنا ب اعترافي بذنوبي أصل إلى رحمته.» خجل العابد من كلام اللص وأدرك أن الغرور يقلل من قيمة أنقى الأعمال، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة، فإن الله يحب المتواضعين ويكره المتكبرين.