نعم، الله عالم بكل مشاعرك. وقيمتها الحقيقية عند الله تكمن في كيفية إدارتنا وتوجيهنا لها، لتقود إلى الأعمال الصالحة والتقرب إليه.
إن السؤال حول ما إذا كانت كل مشاعرنا لها قيمة عند الله هو سؤال عميق وذو مغزى، يتناول مكانة الإنسان في الوجود وعلاقته بخالقه. من منظور القرآن الكريم، فإن الله سبحانه وتعالى هو العليم المطلق، ولا يخفى عليه شيء، سواء كان ظاهراً أو خفياً. يشمل هذا العلم جميع أفكارنا ونوايانا، وبخاصة جميع مشاعرنا القلبية. هذه حقيقة أساسية أشار إليها القرآن في آيات عديدة. على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 284، يقول الله تعالى: "لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (لله ما في السماوات وما في الأرض، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير). هذه الآية تؤكد بوضوح أن ليس فقط الأفعال الظاهرة، بل كل ما في دواخلنا – بما في ذلك النوايا والمشاعر – لا يخفى على الله ويُحاسب عليه. وهذا يعني أن الله عالم بكل مشاعرنا ويراها. ولكن هل كل شعور له "قيمة"؟ كلمة "قيمة" هنا تتطلب تحليلاً دقيقاً. فمن جهة، فإن جميع مشاعرنا، كجزء من الفطرة الإنسانية التي وهبها الله لنا، لها وجود وصلاحية. فقد خلق الله الإنسان بقدرات روحية وعاطفية متنوعة؛ القدرة على الحب، والغضب، والأمل، والخوف، والفرح، والحزن، كلها علامات على قدرة الخالق وحكمته الإلهية. هذه المشاعر هي أدوات وضعها الله فينا لكي نتمكن من تجربة الحياة، والتواصل، وقطع طريق النمو والكمال. لذلك، بهذا المعنى، فإن وجود هذه المشاعر في حد ذاته له قيمة جوهرية، لأنها أودعت فينا من قبل خالق حكيم. ولكن من جهة أخرى، فإن قيمة كل شعور من المنظور الإلهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً باتجاهه، ودافعه، وعواقبه. القرآن الكريم لا يخبرنا أن كل شعور، بغض النظر عن طبيعته وتأثيره، له نفس القيمة. بل يعلمنا كيف ندير مشاعرنا، وأيها يجب أن ننميه، وأيها يجب أن نتحكم فيه أو نصححه. فالمشاعر مثل حب الله، والأنبياء، والمؤمنين، والعدل، والحق، والشعور بالأمل في رحمة الله، والتواضع، والامتنان، والشفقة، هي من بين المشاعر التي أثنى عليها القرآن كثيراً وشجع على تنميتها. هذه هي المشاعر التي تطهر القلب وتؤدي إلى الأعمال الصالحة. هذه المشاعر ليست فقط ذات قيمة عند الله، بل تؤدي إلى تقرب الإنسان إليه ونيل رضاه. على النقيض من ذلك، فإن المشاعر مثل الكبر، والحسد، والحقد، والبخل، واليأس من رحمة الله، والغضب الجامح الذي يؤدي إلى العداوة والظلم، وإن كانت طبيعية وجزءاً من الطبيعة البشرية، إلا أنها إذا لم يتم التحكم فيها وأدت إلى أفعال خاطئة، أو إذا ترسخت في القلب وأمرضته، فإنها لا تحمل قيمة روحية بل يمكن أن تكون ضارة ومعوقة للنمو. يصف القرآن الكريم في سورة آل عمران، الآية 134، المؤمنين الصالحين بقوله: "...وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين). هذه الآية تبين أن كظم الغيظ (التحكم في شعور سلبي) والعفو (فعل حسن ينبع من شعور إيجابي) محبوبان عند الله. وهذا لا يعني تجاهل الغضب، بل إدارته ومنع عواقبه المدمرة. كما ذم اليأس من رحمة الله صراحة في سورة يوسف، الآية 87: "إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). وهذا يدل على أن بعض المشاعر، وإن بدت طبيعية في لحظتها، إلا أنها إذا وصلت إلى حد اليأس من الله، فإنها لا تحمل قيمة روحية بل تعتبر مذمومة. بعبارة أخرى، فإن الله ليس فقط عالماً بجميع مشاعرنا، بل يأخذ في الاعتبار أيضاً كيفية إدارتنا وتوجيهنا لهذه المشاعر. هل تقودنا هذه المشاعر نحو الخير، والعدل، واللطف، والشكر، والتواضع، أم نحو الغرور، والأنانية، والحسد، والظلم؟ إن القيمة الحقيقية للمشاعر عند الله تكمن في قدرتها على تزكية النفس والتقرب إليه. فأي شعور يجعل الإنسان يخطو خطوة نحو ربه، ويطهر قلبه، ويسير في طريق الخير والصلاح، له بلا شك قيمة عظيمة وسامية. حتى المشاعر مثل الحزن والأسى، إذا صاحبتها الصبر والتوكل على الله، يمكن أن تتحول إلى وسيلة للنمو الروحي وتطهير النفس، ومن ثم تكتسب قيمة عند الله. فالله يحب الصابرين والشاكرين. لذلك، الجواب هو نعم، الله عالم بكل مشاعرك. لكن "قيمتها" في المنظور الإلهي تعتمد على كيفية معالجتك لهذه المشاعر، وكيف توجهها في سبيل مرضاة الله، وهل تؤدي إلى أعمال صالحة أو تجنب السيئات. إن الرحلة الروحية للإنسان في الإسلام، إلى حد كبير، هي رحلة إدارة وتطهير هذه المشاعر الداخلية لتقديم قلب سليم ومطمئن إلى حضرته.
يُحكى أنه في قديم الزمان، كان هناك ملك يحكم ممالك واسعة وقد استبد به الغرور بسبب عظمته وقوته. ذات يوم قال لوزيره الحكيم: "لا يوجد في هذا العالم من يمتلك مثل هذه القوة والمجد مثلي!" فأجابه الوزير العاقل، الذي رأى الكثير من التقلبات، بلطف: "أيها الملك، إن ملكك عظيم بلا شك، ولكن تأمل قلب درويش متواضع، متحرر من شهوات الدنيا. سلامه الداخلي، وإن لم يُرَ، قد يكون أبقى من كل قوتك الظاهرة. فإن الله لا ينظر فقط إلى عظمة الأعمال، بل إلى إخلاص القلب ونقاء النوايا." الملك، على الرغم من انزعاجه في البداية، فكر عميقاً في كلمات الوزير وبدأ يتأمل في حالة قلبه الداخلية، ففهم أن القيمة الحقيقية تكمن وراء المظاهر وأن الله يقدر ما يدور في القلب أكثر من أي شيء آخر.