نعم، الدعوات الذهنية تصل إلى الله، فهو عليم بكل ما يدور في القلوب والعقول وأقرب إلينا من حبل الوريد. ويحثنا الله على دعائه في الخفاء لأنه يعلم السر وأخفى.
نعم، بكل يقين وجزم تام، الدعوات الذهنية والنجاوى القلبية تصل إلى الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى عليم بها تماماً. هذه الحقيقة لا تتوافق فقط مع التعاليم الإسلامية العامة حول علم الله وقدرته المطلقة، بل تؤكدها آيات عديدة في القرآن الكريم بشكل مباشر وتصرح بها، مما يمنح طمأنينة وراحة بال عميقتين لقلب المؤمن. إن فهم هذه المسألة يؤسس لعلاقة أعمق وأكثر حميمية بين العبد وربه، إذ يمنح الإنسان طمأنينة بأن أفكاره الصامتة وأعمق رغباته الداخلية لا تخفى عن علم الله وبصره؛ بل هي دائماً في محضر علمه. لقد وصف الله تعالى نفسه في القرآن الكريم بصفات لا حصر لها من الكمال، ومن أبرز هذه الصفات: "السميع" (أي الذي يسمع كل شيء)، و"العليم" (أي الذي يعلم كل شيء)، و"البصير" (أي الذي يرى كل شيء). هذه الصفات لا تشير فقط إلى سماع ورؤية الأمور الظاهرة والعلنية، بل تشمل يقيناً إدراك وإحاطة تامة بجميع الأمور الباطنية والخفية، بل وحتى خواطر القلب والنفس العابرة. فالله سبحانه وتعالى، متجاوزاً حدود الحواس البشرية، لديه علم كامل ودقيق بكل ما يدور في القلوب والعقول، ولا يخرج شيء عن دائرة علمه. وهذا يعني أن الله لا يسمع الكلمات المنطوقة فحسب، بل يعلم أيضاً جميع الأفكار غير المعلنة، والرغبات المكنونة، والمخاوف اللاواعية، والنوايا القلبية. من أوضح وأجمل الآيات في هذا الصدد هي الآية السادسة عشرة من سورة ق، حيث يقول تعالى: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما تحدث به نفسه، ونحن أقرب إليه من وريده). هذه الآية تبين بوضوح أن الله يعلم كل ما يجول في أعماق نفس الإنسان وفكره، بما في ذلك الوساوس والنجاوى الداخلية والدعوات الذهنية. عبارة "نَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ" تعني تحديداً معرفة الله للنجاوى الداخلية والأفكار الخفية، وهذا العلم مطلق لا يحتاج إلى تعبير لفظي أو صوت مسموع. وقرب الله من "حبل الوريد" كناية عن إحاطته الكاملة وعلمه اللحظي وحضوره الدائم، بحيث لا يخفى عليه شيء. وهذا القرب ليس قرباً مكانياً، بل هو قرب علم وإحاطة، يؤكد لنا أنه حاضر دائماً ومطلع على جميع حالاتنا الداخلية. آية أخرى تؤكد هذه الحقيقة وتقدم إرشاداً عملياً أيضاً هي الآية الخامسة والخمسون من سورة الأعراف: "ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (ادعوا ربكم تذللاً وفي خفية، إنه لا يحب المعتدين). كلمة "خُفْيَةً" تعني سراً أو بصوت خافت. هذه الآية تأمرنا بأن ندعو الله ليس فقط بتذلل وتضرع، بل أيضاً في الخفاء والسر. هذا الخفاء يمكن أن يشمل الدعاء الذهني، حيث يناجي العبد ربه بقلبه وعقله فقط، دون الحاجة إلى نطق الكلمات بصوت عالٍ. هذا النوع من الدعاء يدل على أقصى درجات الإخلاص والبعد عن الرياء، لأن الذي يدعو بهذا الشكل يعلم يقيناً أن الله يسمع حتى الدعوات الذهنية. هذه الآية تصرح بجواز الدعاء الخفي بل تفضيله، والدعاء الذهني هو مصداق بارز لذلك، وهذا يبين أن جودة الدعاء أهم من كميته أو علانيته. علاوة على ذلك، نقرأ في الآية الثالثة عشرة من سورة الملك: "وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" (وأخفوا كلامكم أو أظهروه، إنه عليم بما في الصدور). هذه الآية تؤكد بوضوح أنه سواء أعلنّا أقوالنا أم أخفيناها وحفظناها في قلوبنا، فإن الله عليم بها جميعاً، ولا يخفى عليه منها شيء. عبارة "عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" تعني أن الله لديه علم كامل وشامل بالأفكار والنوايا والأسرار المخفية في القلوب والصدور. وهذا يشمل أي نجوى أو فكرة أو دعاء ذهني لا يُنطق به. هذه الآية تضمن أن لا شيء، حتى أعمق الرغبات وأشد الأفكار خفاءً، يخفى عن العلم الإلهي، وأن كل نداء، سواء كان ظاهراً أو خفياً، يصل إلى عتبة الله. إن فهم أن الدعوات الذهنية مسموعة له تداعيات عميقة على حياتنا الروحية. أولاً، يمنحنا طمأنينة بال لا مثيل لها بأنه في أي زمان ومكان، حتى عندما لا نتمكن من التعبير بكلمات (بسبب المرض، أو الضعف، أو قيود أخرى) أو نكون في جمع لا نرغب في إظهار دعائنا، يمكننا التحدث مع ربنا وإقامة صلة معه. هذه القدرة المستمرة وغير المقيدة على التواصل تعزز الشعور بالحضور الإلهي في حياتنا، وتجعل الإنسان يشعر بأنه دائماً في حضرة الله. ثانياً، الدعاء الذهني يعزز الإخلاص. عندما يناجي الإنسان ربه بقلبه فقط، ولا يوجد دافع خارجي (مثل لفت انتباه الآخرين أو إظهار التقوى)، يصبح الدعاء أكثر نقاءً وعمقاً، ويبتعد عن أي شائبة من الرياء. هذا الارتباط الحميم والمباشر يمهد الطريق للنمو الروحي، ونقاء القلب، والتقرب أكثر إلى الله، ويرفع علاقة العبد بخالقه إلى ذروتها. في الختام، إن الله لا يسمع الدعوات الذهنية فحسب، بل هو عليم بالنوايا والمقاصد الخفية والظاهرة الكامنة وراءها. فقيمة الدعاء لا تكمن فقط في الكلمات التي تُنطق، بل في نقاء النية وحضور القلب والصدق الذي يكمن وراءه. الدعوات الذهنية التي تُؤدى بنية خالصة وتوجه كامل وحضور قلبي إلى الله، يمكن أن يكون لها تأثير أعمق وأقوى من الدعوات اللفظية عديمة الروح والانتباه، لأنها تعبر عن علاقة حقيقية وعميقة بالذات الإلهية. لذلك، ينبغي على المؤمنين أن يحافظوا دائماً على قلوبهم وعقولهم متجهة نحو الله، وأن يعلموا أن كل نجوى ورغبة تنبع من أعماق الروح تصل إلى عتبة الله وتلقى اهتماماً وعناية خاصة منه. هذه المعرفة هي مصدر عظيم للطمانينة والأمل وتقوية للإيمان، وتشجعنا على إقامة علاقة مستمرة، عميقة، وصادقة مع ربنا، في كل لحظة وفي كل حالة كنا عليها.
يُروى أن في الأزمنة الغابرة، كان هناك رجل زاهد قد اعتزل صخب المدينة إلى مكان منعزل ليتضرع إلى ربه ويناجيه. ظن أهل المدينة أنه بسبب بُعده عن المجتمع وعدم مشاركته في صلاة الجماعة، فإنه محروم من الفيض الإلهي. ولكن ذلك الزاهد، على الرغم من أن لسانه كان صامتاً، فإن قلبه كان يهمس باستمرار بذكر الله، وكان يقدم دعواته فقط في خلوة عقله وقلبه لربه. ذات يوم، قال له عالم حكيم: "يا رجل، لماذا لا تأتي إلى المسجد لتصلي مع الجماعة وترفع صوتك بالدعاء؟ ألا تعلم أن الدعاء بصوت عالٍ يقرب القلوب ويسرع الإجابة؟" ابتسم الزاهد وأجاب بهدوء: "يا صديقي، ألا تعلم أن أذن الله لا تحتاج إلى صياح ولا إلى همس، ظاهراً كان أو خفياً؟ عندما يندفع القلب بكليته وإخلاص نيته نحو الله، فإن أشد الدعوات صمتاً وأخفى النجاوى تصل إلى عرشه وتلقى القبول لديه. أحياناً، تكون آهة من أعماق الروح أو فكرة صادقة في القلب أحب إليه من آلاف الدعوات الصاخبة، لأنه سبحانه قد قال في كتابه إنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو عليم تماماً بوساوسنا ونجاوى نفوسنا الداخلية. فما الحاجة إلى الصياح أو الإظهار عندما يكون سر القلب مع عليم الأسرار؟" تأثر العالم بهذا الكلام وأدرك أن حقيقة الدعاء تكمن في حضور القلب، وإخلاص النية، والارتباط المباشر بالله، وليس فقط في علو الصوت أو مظهر الأعمال.