الإيمان الحقيقي يعني قطع الشك المدمر الذي يؤدي إلى الكفر. ولكن الشك البناء، الذي ينشأ من التساؤل والتأمل للوصول إلى اطمئنان قلبي ويقين أعمق، يمكن أن يكون جزءًا من مسار تقوية الإيمان.
إن فهم مفهوم الإيمان وعلاقته بالشك هو أحد أهم المواضيع في مسار النمو الروحي. وفقًا لتعاليم القرآن الكريم، الإيمان يعني قناعة عميقة قلبية، لا تقتصر على الإقرار اللفظي فحسب، بل تمتد لتشمل المعرفة والتصديق والتسليم للحقيقة. للوهلة الأولى، قد يبدو أن الإيمان الحقيقي يستلزم إزالة أي شكل من أشكال الشك والتردد، وهذا الفهم صحيح إلى حد كبير، خاصة إذا كان المقصود بالشك هو الشك الذي يؤدي إلى الكفر أو النفاق ويحيد الإنسان عن طريق الحق. فالقرآن الكريم في آيات متعددة يذم الشك والارتياب ويعتبرهما من سمات الكافرين أو المنافقين أو من في قلوبهم مرض. على سبيل المثال، يقول الله تعالى في سورة الحجرات، الآية 15: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ أي: 'إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يشكوا في إيمانهم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله؛ أولئك هم الصادقون في إيمانهم.' هذه الآية تُظهر بوضوح أن الإيمان الكامل والصادق لا يتوافق مع الشك والتردد المستمر، ويجب أن يكون المؤمن خالياً من الارتياب ليُعد من الصادقين. هذا النوع من الشك هو شك مدمر يؤدي إلى الكفر والعجز عن العمل. ولكن، هل هذا يعني أن أي شكل من أشكال التساؤل أو التأمل أو حتى لحظة من عدم اليقين (وليس عدم الاعتقاد) مرفوضة في مسار الإيمان؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب بعض التأمل الإضافي. فالقرآن الكريم يأمر المؤمنين بالتفكر والتدبر في آيات الله، سواء في الكتاب السماوي أو في خلق الكون. هذه الدعوة إلى التفكر والتعقل هي بحد ذاتها باب للتساؤل. أحياناً، يحتاج الإنسان للوصول إلى يقين أعلى (كـ يقين العين أو حق اليقين) إلى التساؤل والبحث. قصة النبي إبراهيم عليه السلام في القرآن مثال تعليمي للغاية في هذا السياق. ففي سورة البقرة، الآية 260، يطلب إبراهيم من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ أي: 'وإذ قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال: أوَلم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي.' هنا، إبراهيم لا يشك في قدرة الله، بل يسعى إلى تحقيق 'اطمئنان قلبي' ونوع من اليقين الشهودي الذي يتجاوز اليقين العقلي. هذا النوع من التساؤل ليس مذموماً، بل هو وسيلة لتعميق الإيمان والوصول إلى مراتب أعلى من اليقين. وهذا الاطمئنان القلبي هو كمال الإيمان الذي يُزيل الشك. لذا، فإن الإيمان الحقيقي يؤدي في النهاية إلى انقطاع الشك، ولكن مسار الوصول إلى هذا اليقين يمكن أن يتضمن مراحل من التساؤل والتأمل التي تؤدي إلى تقوية الإيمان وتثبيته. من منظور القرآن، الإيمان عملية ديناميكية يمكن أن تزيد (يزيد) أو تنقص (ينقص). فالمؤمنون الحقيقيون هم الذين يزداد إيمانهم عند سماع آيات الله. وهذا الازدياد في الإيمان يعني إزالة أي ظلال من الشك والوصول إلى اليقين المطلق. أما الشك المذموم، فهو الذي ينبع من الجهل أو التعصب أو الغرور أو الإغفال عن آيات الله وعلاماته. هذا الشك، بدلاً من أن يهدي إلى الحقيقة، يؤدي إلى التيه والضلال. في المقابل، فإن الأسئلة الصادقة والتأملات التي تهدف إلى فهم أعمق والوصول إلى إجابات أكثر يقيناً، لا تتوافق مع الإيمان فحسب، بل يمكن أن تكون بمثابة درجات للصعود إلى مستويات أعلى من الإيمان. هذا النوع من 'الشك البناء' هو في الواقع قوة دافعة للبحث عن الحقيقة والوصول إلى 'اليقين' (القطع الكامل). ولهذا السبب، فإن الإيمان لا يعني فقط عدم الشك، بل يعني الوصول إلى 'اليقين'؛ وقد يكون هذا اليقين قد تحقق بعد المرور بمراحل من التساؤل والتأمل. ولذلك، فإن الإيمان الحقيقي يعني قطعاً إزالة الشك المدمر، ويؤدي في النهاية إلى الاطمئنان القلبي واليقين الكامل. ومع ذلك، هذا لا يعني بأي حال من الأحوال نفي التفكر والتدبر والتساؤل البناء؛ بل يمكن أن تكون هذه وسيلة للوصول إلى ذلك الكمال والاطمئنان. في الحقيقة، الإيمان الكامل يتحقق عندما يتطهر قلب الإنسان من كل وسوسة وشك شيطاني ويُضاء بنور اليقين والمعرفة الإلهية. هذه الحالة من الإيمان تمنح المؤمن ثباتاً وصلابة خاصة تجعله مقاوماً للوساوس والشبهات وتجعله ثابتاً في طريق الطاعة والعبادة. وبناءً عليه، يمكن القول إن الإيمان في النهاية يعني انقطاع الشك، ولكن هذا الانقطاع ليس نقطة البداية لكل مسار الإيمان، بل يمكن أن يكون المقصد والغاية في رحلة الإيمان. الإيمان الحقيقي ليس مجرد قبول حقيقة دون تساؤل، بل هو قبول ينبع من المعرفة والاطمئنان. وقد تكون هذه المعرفة والاطمئنان نفسها نتاج المرور بمرحلة التساؤل والتدبر في الآيات الإلهية. يؤكد القرآن الكريم مراراً على أهمية الآيات والبراهين للوصول إلى الإيمان، وهذا بحد ذاته يدل على أن الإيمان ليس إيماناً أعمى، بل هو قائم على العقل والبرهان. ومن يبلغ هذه المرتبة من الإيمان، يفرغ قلبه من الشك والتردد ويمتلئ بالسكينة والاطمئنان إلى الله ووعوده. ويتجلى هذا الاطمئنان ليس فقط في معتقداته بل في سلوكه وأفعاله، ويدفعه نحو الأعمال الصالحة والثبات على طريق الحق. وبالتالي، فإن الإيمان الكامل هو حالة من اليقين لا مكان فيها للتردد والشك، وقد وصل قلب الإنسان فيها إلى السكينة التامة أمام الحقيقة الإلهية. هذه السكينة واليقين هما النتيجة المباشرة للمعرفة العميقة والإدراك لعظمة الله وحكمته، ولا يعنيان بأي حال من الأحوال تجاهل العقل والفكر. في الواقع، العقلانية والتفكير هما وسيلتان توجهان الإنسان إلى هذا الوادي من اليقين والسكينة.
في گلستان سعدي يُروى أن تاجراً مشهوراً في شيراز، على الرغم من تمتعّه بالثروة والمكانة، كان قلبه دائماً مضطرباً بالهموم والشكوك حول المستقبل واستقرار رزقه. لذلك، كل ما يكتسبه كان يحتفظ به بجشع وبخل شديدين، وقلما كان يُعطي للآخرين، لأنه كان يخشى باستمرار أن يُصبح فقيراً يوماً ما. في أحد الأيام، ذهب إلى حكيمٍ فاضل وشكا إليه قلقه. ابتسم الحكيم بلطف وقال: 'يا رجل، رزقك من خزائن الحق، وراحة قلبك من اليقين به. قصتك هي قصة ذلك الرجل الذي كان يسير في صحراء قاحلة حاملاً قربة ماء ممتلئة على ظهره، لكنه من خوفه من نفاذ الماء، لم يشرب قط حتى يرتوي ولم يعطِ قطرة لعطشان قابله، حتى هلك من العطش والهم. أما آخر، فكان معه إناء صغير من الماء، فتوكل على الله. شرب منه بنفسه وأعطى لكل محتاج قابله. والغريب أنه كلما رفع الإناء إلى شفتيه، وجده ممتلئاً بالماء! شك الأول جلب له الخسارة، ويقين الثاني جلَب له البركة والسلام. الإيمان الحقيقي ليس ألا يكون لديك سؤال في قلبك أبداً، بل هو أن اليقين يهديك الطريق حتى لو ظهر سؤال، ويجلب الاطمئنان إلى قلبك.' استوعب التاجر كلام الحكيم. شيئاً فشيئاً، ترك الجشع، وبثقة في الرزّاق الذي لا حدود له، بدأ يعطي بسخاء. فوجد أنه مع كل إنفاق، أصبح قلبه أكثر هدوءاً، ولم ينقص رزقه بل زادت بركته. غادرت الشكوك قلبه، وغمر نور اليقين كيانه، ووصل إلى سلام لا يمكن استبداله بأي ثروة.