نعم، الله العليم يرى ويدرك تماماً حالتك الداخلية وصبرك الخفي. هذا الصبر الصامت، دون شكوى للناس، يدل على توكل عميق عليه ويحمل أجراً عظيماً بلا حساب.
نعم، بلا أدنى شك. يؤكد لنا القرآن الكريم صراحة وضمناً أن الله، العليم (بكل شيء)، البصير (بكل ما يُرى)، الخبير (بكل ما خفي)، هو على دراية تامة بكل شيء، سواء كان ظاهراً أو خفياً. إن صبرك، حتى لو كان صراعاً صامتاً، أو قوة داخلية، أو عزماً عميقاً لا تنطقه أو تشكو منه لأحد، فهو مرئي له تماماً. في الواقع، غالباً ما تحمل مثل هذه الأعمال الخفية من العبادة والثبات وزناً خاصاً ومكافأة عميقة في نظر الله، تحديداً لأنها تُفعل لوجهه تعالى وحده، دون السعي وراء التقدير البشري أو التعاطف من الآخرين. إن جوهر الإيمان في الإسلام يتضمن الإيمان بصفات الله الكاملة. عندما نقول إن الله "العليم"، فهذا يعني أن علمه يشمل كل شيء – الماضي والحاضر والمستقبل، الظاهر والباطن، المنطوق وغير المنطوق، الأفعال والنوايا. إنه يعلم ما في أعماق قلوبنا، وصراعات نفوسنا، والدموع الصامتة التي قد نذرفها. إنه لا يحتاج منا أن نعبّر عن معاناتنا ليكون على علم بها. بل على العكس من ذلك، في بعض الأحيان، فإن كبح الشكوى من الناس، والتوجه بدلاً من ذلك إلى الله في صمت أو من خلال الدعاء الداخلي، هو عمل عميق من التوكل والاعتماد عليه وحده. وهذا يدل على مستوى أعلى من الإيمان، حيث يدرك المرء أن الله وحده هو القادر حقاً على رفع الكرب وأن السعي وراء تعاطف البشر قد يقلل من الأجر أو يؤدي إلى مزيد من خيبة الأمل. يتحدث القرآن بإسهاب عن الصبر وفضائله العظيمة. ففي سورة الزمر (39:10)، يقول الله تعالى: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ". هذه الآية وحدها شهادة قوية على قيمة الصبر الهائلة. تشير عبارة "بغير حساب" إلى مكافأة غير محدودة وغير مقيدة، تفوق بكثير ما يمكن للمرء أن يتوقعه. هذا الجزاء السخي مخصص لجميع أشكال الصبر، بما في ذلك الصبر الصامت، حيث يتحمل المرء الشدائد بكرامة وإيمان، ويمتنع عن التذمر أو الشكوى للآخرين. يعلم الله المدى الحقيقي لصبرنا، وعمق صراعاتنا الداخلية، وصدق اعتمادنا عليه. إنه يرى الألم الذي تتحمله، والمشقة التي تقاومها، والأمل الذي تحافظ عليه في رحمته، حتى عندما لا يرى أحد آخر ذلك. علاوة على ذلك، تأمل صفة الله "البصير"، وهو الذي يرى كل شيء. هذا يعني أن بصره لا يقتصر على الأمور المادية والمرئية فقط، بل يمتد ليشمل الجوانب غير المرئية من وجودنا – أفكارنا، مشاعرنا، نوايانا، والحالة الداخلية لقلوبنا. عندما تكون صابراً، فإنك تؤدي عملاً عبادياً بقلبك وروحك. إنك تخضع لأمره، وتثق في حكمته، وتأمل في فرجه. هذا التوجه الداخلي يراقبه الله بالكامل. ففي سورة التغابن (64:4)، يعلن الله: "يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ". هذه الآية تؤكد مباشرة أن الله على علم تام بما نخفيه في صدورنا، بما في ذلك صبرنا الصامت وألمنا غير المنطوق وثباتنا في أوقات المحن. إن الامتناع عن الشكوى للآخرين، بينما يجوز بل يشجع التعبير عن الألم وطلب العون من الله بالدعاء، يعكس مستوى عميقاً من الاعتماد عليه والتفاني الخالص له. إنه يعني أنك تضع ثقتك مباشرة في الذات الإلهية، مع إدراكك أن البشر، مهما كانوا متعاطفين أو حسني النية، يمتلكون قوة محدودة بطبيعتها للمساعدة الحقيقية أو فهم النطاق الكامل لضيقك. هذه القوة الداخلية، وهذا الإيمان الثابت، وهذا الارتباط المباشر بالخالق هي بالضبط ما يقدره الله ويعترف به ويكافئ عليه. ومثال ذلك نبي الله يعقوب (عليه السلام) عندما كان يحزن بشدة على يوسف (عليه السلام)، قال: "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (سورة يوسف، 12:86). هذا البيان القوي يوضح الفرق الجوهري: الشكوى إلى الله هي عمل من أعمال التواضع والاستسلام وطلب العون من المعين المطلق، في حين أن الشكوى من قضاء الله أو الشكوى للناس بدافع عدم الصبر هي أمر غير مستحسن في لهجتها وهدفها. لذا، يمكن اعتبار صبرك الصامت شكلاً أعمق وأكثر داخلياً من هذا الاعتماد، حيث يتحدث قلبك إلى الله، معبراً عن مرونتك وثقتك، حتى لو لم ينطق لسانك بالمدى الكامل لشدتك أمام الملأ. ختاماً، إن علم الله شامل، كامل، ومحيط بكل شيء. إنه لا يحتاج إلى إشارات خارجية أو شكاوى لفظية أو مظاهر علنية ليفهم طبيعة حالك الداخلية بدقة. إنه يعلم الثقل الذي على قلبك، والمعارك الصامتة التي تخوضها في نفسك، وعمق ألمك الخفي، وصدق صبرك. كل لحظة من الصبر الصامت، كل دمعة محبوسة، كل نفس يؤخذ في تسليم لإرادته الإلهية، مسجل بدقة، ومقدر بعمق، ومكافأ أبدياً منه سبحانه وتعالى. هذا الفهم العميق يجب أن يجلب راحة وطمأنينة هائلتين لأي شخص يتحمل المشقة. إنه يؤكد أن صراعاتك ليست بلا جدوى أبداً، وأن صبرك لا يمر دون ملاحظة أبداً. إن الله حقاً مع الصابرين، يدعمهم باستمرار، ويهديهم خلال محنهم، ويعد لهم مكافأة تفوق الفهم البشري. وكلما كان صبرك أكثر إخلاصاً وخفاءً ولله وحده، زادت احتمالية نقاء النية وبالتالي كانت المكافأة أعظم وأوفر. فكن على يقين تام، إن صبرك الصامت ليس مجرد مرئي؛ بل هو محل تقدير عميق، وتسجيل عظيم، ومكافأة وفيرة من الرحمن الرحيم، العليم بكل شيء. إنه شهادة قوية على إيمانك الثابت واستثمار لا يقدر بثمن في مستقبلك الأبدي.
يُروى أنه في الأزمنة القديمة، كان هناك تاجر ثري فَقَدَ فجأة كل ثروته وسقط في فقر مدقع. كان رجلاً ذا كرامة عظيمة ولم يشتكِ أبداً، لا لأصدقائه المقربين ولا لعائلته. خلال النهار، كان يعمل في السوق، وفي الليل، في خلوة غرفته، بقلب مليء بالألم لكنه مفعم بالأمل في فضل الله، كان يناجي ربه. مرت عليه سنوات، ولم يعلم أحد بحالته المضطربة. ظاهرياً، كان يبتسم ويتحمل مصاعب الحياة بصبر. وفي أحد الأيام، رآه درويش حكيم كان جاره لسنوات ولم يسمع منه كلمة شكوى قط، فسأله: "يا أخي، لقد عرفتك لسنوات ولم أسمع منك شكوى واحدة قط. إن صبرك يدهشني. هل حقاً ليس هناك تنهد في قلبك؟" ابتسم التاجر وقال: "أليس الله أحكم وأرحم من أن يحتاج إلى شكوانا ليعلم بحالنا؟ إنه هو البصير والسميع، وهو يعلم أجر الصابرين. الشكوى للناس لا تجلب إلا ضعف الإيمان والإهانة، أما الشكوى إليه فهي عين العبودية وطلب الرحمة. وقد اخترت هذه العبودية في خلوتي." أومأ الدرويش برأسه وأدرك أن الرجل التاجر، بصبره الصادق، قد نال منزلة رفيعة في حضرة الله. مكافأته لن تأتي من أيدي البشر، بل من كنوز الغيب الإلهي. تذكرنا هذه القصة الدافئة أن الله على دراية بآلامنا الخفية وصبرنا الصامت وقد قدر لها مكافأة عظيمة.