الاعتياد على الذنب لا يطفئ الإيمان مباشرة، لكنه يضعفه بشدة ويخفت نوره، كالصدأ الذي يغطي القلب ويمنع الهداية. التوبة الصادقة مع ذلك، هي دائماً طريق لإحياء الإيمان.
إن السؤال حول ما إذا كان الاعتياد على الذنب يطفئ الإيمان هو أحد أعمق وأهم الاستفسارات في فهم الرحلة الدينية للإنسان وسلامته الروحية. من منظور القرآن الكريم، الإيمان ليس حالة ثابتة أو جامدة؛ بل هو قوة ديناميكية وحيوية، أشبه بالنبات الذي يحتاج إلى رعاية وسقي مستمرين لينمو ويثمر. الذنوب، خاصة عندما تصبح عادة، لا توقف هذا النمو فحسب، بل تضعف تدريجياً جذور الإيمان، وتخفت نوره في قلب الإنسان. يُبين القرآن بوضوح أن الذنب يعمل كحجاب على القلب والبصيرة الداخلية، مما يحرم الفرد من إدراك الحقائق الإلهية واستقبال نور الهداية. في آيات عديدة، يتناول القرآن التأثير العميق للذنب على القلب. على سبيل المثال، في سورة المطففين، الآية 14، يقول الله تعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا یَکْسِبُونَ"؛ "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون". هذه الآية توضح بشكل جلي كيف أن الذنوب، مثل الصدأ الذي يتراكم على المرآة، تتراكم على القلب، مما يمنعه من عكس نور الحقيقة والوحي الإلهي. هذا "الرين" أو الصدأ يشير إلى الظلمة والفساد الذي يقلل من إحساس المرء بالصواب والخطأ، ويزيل تدريجياً قبح الذنب. عندما يعتاد الفرد على الذنب، تتراكم هذه الطبقات من "الرين"، فتغطي القلب بالكامل وتختمه. يشير القرآن إلى هذه الحالة في آيات مثل سورة البقرة، الآية 7: "خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"؛ "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم". هذا "الختم" لا يعني الإزالة الكاملة لحرية الإرادة، بل هو نتيجة طبيعية للإصرار على الذنب والابتعاد المتعمد عن الحق، مما يسلب القلب تدريجياً قدرته على فهم وقبول الهداية. إن الاعتياد على الذنب يقلل بشكل كبير من حساسية الإنسان الروحية والأخلاقية. في البداية، قد يكون ارتكاب الذنب مصحوباً بالندم وتأنيب الضمير، ولكن مع التكرار، يتلاشى هذا الندم ويختفي في النهاية. هذا الخدر الروحي هو أخطر مرحلة، حيث لا يشعر الفرد بعد ذلك بالحاجة إلى التوبة والعودة إلى الله. الإيمان الحقيقي حي عندما يكون الشخص حساساً للأوامر الإلهية، ويمتنع عن ارتكاب الذنوب، وإذا حدث خطأ، يعود فوراً إلى الله بالتوبة. أما من اعتاد على الذنب، فإنه لا يجد لذة في الذنب فحسب، بل قد يصر عليه ويبرره. هذه الحالة تشبه المرض الذي ينخر الجسم من الداخل؛ وعلى الرغم من أن الشخص قد يبدو حياً، إلا أنه يفتقر إلى الصحة والحيوية الحقيقية. في مثل هذه الحالة، حتى لو لم يتم "إطفاء" الإيمان بالكامل، فإن نوره وفعاليته يضيعان، ليتحول إلى إيمان ضعيف وغير فعال لا يمكنه هداية الفرد أو خلاصه. ومع ذلك، فإن القرآن الكريم يبقي أبواب رحمة الله ومغفرته مفتوحة دائماً لعباده. حتى لمن اعتاد على الذنب، طالما أن الروح في الجسد وفرصة التوبة قائمة، هناك أمل في العودة وإحياء الإيمان. سورة الزمر، الآية 53، تقول: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ یَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِیعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ"؛ "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم". هذه الآية تبين بلا لبس أن حتى الإصرار على الذنب و"الإسراف على النفس" لا يمنع المغفرة الإلهية، بشرط أن تكون هناك توبة صادقة وعودة حقيقية. ولكن من الضروري أن نفهم أن هذه الفرصة للتوبة يجب ألا تستخدم كذريعة للاستمرار في الذنب. التوبة الحقيقية تتضمن الندم على الماضي، والامتناع عن الذنب في الحاضر، والعزم على عدم العودة إليه في المستقبل. باختصار، إن الاعتياد على الذنب لا يطفئ الإيمان مباشرة بمعنى أن يصبح الشخص كافراً على الفور، ما لم يتضمن الذنب نفسه إنكاراً لأحد المبادئ الأساسية للدين (مثل الشرك أو إنكار النبوة). ولكن ما يحدث هو إضعاف شديد وتخافت وتأثير غير فعال لنور الإيمان. إن هذا الرين من الذنوب يحرم القلب تدريجياً من قدرته على استقبال الهداية وقد يقود الفرد في النهاية إلى الكفر العملي أو النفاق، حيث يبقى اسم الإيمان عليه ولكن جوهره قد فرغ. للحفاظ على الإيمان وتقويته، يجب على الإنسان أن يراقب قلبه باستمرار، ويتجنب الذنوب، وإذا ارتكب خطأ، يعود إلى الله دون تأخير بتوبة نصوح. إن هذه اليقظة والجهاد الدائمين هما اللذان يحافظان على نور الإيمان مشتعلاً وثابتاً في القلب، ويجعلان الإنسان ثابتاً على طريق الحق.
في كتاب "گلستان" لسعدي، يُروى أن ملكاً عادلاً كان يرسل الخبز والتمر إلى درويش كل ليلة. استغرب درويش آخر من سخاء الملك، وسأل الدرويش يوماً: "ماذا فعلت لينالك هذا اللطف كله من الملك؟" فأجاب الدرويش: "أنا ألتزم بمبدأ واحد دائماً؛ كلما ارتكبت خطأ، أسرع بالتوبة وأطهر قلبي من دنس ذلك الخطأ، خشية أن يستقر ذنب صغير في قلبي ويبعدني عن الصراط المستقيم. فصدأ الذنوب، مهما كان صغيراً، إذا استقر على مرآة القلب، فإنه يغطي نور الإيمان تدريجياً ويظلم القلب. والملك الصالح قد رأى هذا النقاء والنور فيّ." هذه الحكاية من سعدي تذكرنا بأن أصغر الذنوب، إذا اعتيد عليها، يمكن أن تقلل من إشراقة القلب والإيمان، وأن اليقظة في التوبة وطهارة القلب هي السبيل للحفاظ على ذلك النور الإلهي.