الندم على الماضي يمكن أن يضعف الإيمان إذا أدى إلى اليأس والقنوط. لكن إذا دفع إلى التوبة والإصلاح والتعلم، فإنه يمكن أن يقوي الإيمان.
في تعاليم القرآن الكريم، ليس لمجرد الشعور بـ «الندم» أو «الحسرة» على الماضي أن يضعف الإيمان في جوهره، بل إن كيفية تعامل الإنسان مع هذا الشعور وما يترتب عليه هو ما يمكن أن يقوي الإيمان أو يضعفه. القرآن لا يذكر صراحة أن الندم على الماضي يضعف الإيمان، ولكنه يشير إلى مفاهيم ذات صلة توضح جذور هذه الحالة. الندم والأسف على الماضي، إذا كان بناءً وموجهاً نحو التوبة والإصلاح وأخذ العبرة، فإنه لا يضعف الإيمان فحسب، بل يمكن أن يجعله أقوى وأرسخ. أما إذا أدى هذا الندم إلى اليأس والقنوط، والشلل عن العمل، وعدم التوكل على الله، فحينئذ يمكن أن يضرب الإيمان في الصميم ويؤدي إلى تآكله تدريجياً. يحذر القرآن الكريم المؤمنين من اليأس. يعتبر اليأس من رحمة الله من الكبائر، وعلامة على ضعف الإيمان. يقول الله تعالى في سورة الزمر، الآية 53: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". هذه الآية دعوة صريحة للأمل والعودة إلى الله، حتى لأولئك الذين ارتكبوا ذنوباً عظيمة. إذا أدى الندم على الماضي إلى شعور الفرد بأنه لن يغفر له أبداً، وأنه لا توجد عودة، فإنه في الواقع يميل إلى اليأس، وهذا بحد ذاته يضعف الإيمان. الإيمان القوي هو الإيمان الذي يثق بسعة رحمة الله ومغفرته، ولا يتوقف أبداً عن تصحيح المسار والتوبة. من ناحية أخرى، فإن الندم البناء هو الذي يدفع الإنسان إلى التعلم من أخطائه الماضية. يروي القرآن مراراً قصص الأمم السابقة للعبرة، لا لكي يغرق الناس في ماضيهم ويلوموا أنفسهم بلا نهاية. الغرض من تذكير هذه القصص هو منع تكرار الأخطاء والتشجيع على المضي قدماً في الطريق الصحيح. يستخدم المؤمن الحقيقي تجاربه الماضية، سواء كانت ناجحة أو خاطئة، كدرجات للنمو الروحي وتصحيح العمل. هذا النوع من الندم، المصحوب بالتوبة والاستغفار، لا يضعف الإيمان فحسب، بل يساعد على تزكية النفس وتطهير الروح، ويعمق ارتباط الإنسان بخالقه. التوكل على الله هو أحد الأركان الأساسية للإيمان. فالشخص الذي يأسف كثيراً على ماضيه وينغمس فيه، قد يعاني في الواقع من ضعف في التوكل. فقد يتصور أن نتائج الماضي لا يمكن تغييرها وأن مصيره محكوم بذلك الماضي، بينما الإيمان الحقيقي يعني أن الله قادر على كل شيء ويمكنه تغيير المسارات وإخراج الخير حتى من قلب المشاكل. يقول الله تعالى في سورة الطلاق، الآية 3: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا". تشير هذه الآية إلى أن الثقة في القدرة والتدبير الإلهي تحرر الإنسان من الغرق في ندم لا طائل منه، وتمكنه من النظر إلى المستقبل بشجاعة وأمل، والسير في طريق مرضاة الله. علاوة على ذلك، يتم التأكيد على مفهوم الصبر مراراً وتكراراً في القرآن. الصبر على المصائب، والصبر عن المعصية، والصبر على الطاعة. الندم على الماضي، وخاصة المصائب والإخفاقات، ينبع أحياناً من عدم الصبر. إذا نظر الإنسان إلى ما مضى بصبر وقبول، وعلم أن لكل حدث حكمة، فإن هذه النظرة تخرجه من دوامة الندم. يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 153: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". تعلم هذه الآية المؤمنين أن يلجأوا إلى الصبر والصلاة عند مواجهة التحديات والمتاعب، وهذا يشمل المتاعب الناجمة عن الماضي أيضاً. الاستسلام لندم الماضي والاستسلام لليأس يتناقض مع روح الصبر والتوكل. في الختام، يركز القرآن على العمل الصالح في الوقت الحاضر والاستعداد للآخرة. الإيمان القوي هو الذي يدفع الفرد نحو العمل والبناء، لا نحو الركود والاكتئاب الناجم عن الماضي. كل لحظة هي فرصة جديدة للتقرب إلى الله والقيام بالأعمال الصالحة. التعلق المفرط بما مضى ولا يمكن تغييره، يمنع من استغلال اللحظات الحالية لبناء مستقبل أفضل، في الدنيا والآخرة. رسالة القرآن هي دائماً الأمل، والحركة، والعودة إلى الله. الندم على الماضي يكون ضاراً فقط عندما يسلب الإنسان هذه الروح الإيجابية والبناءة. لذلك، من وجهة نظر القرآن، الندم المصحوب باليأس وعدم التوكل يضعف الإيمان، أما الندم الذي يؤدي إلى التوبة والإصلاح والأمل، فإنه لا يضعف الإيمان فحسب، بل يضيف إليه نضجاً وقوة. المعيار هو كيفية استجابة قلب وعقل المؤمن لهذا الشعور، وليس مجرد وجود الشعور نفسه.
كان يا مكان، في قديم الزمان، تاجر يدعى فريدون فقد كل ثروته بسبب قرار تجاري خاطئ. استقر حزن عظيم في قلبه، وقضى لياليه وأيامه يتحسر على الماضي الذي فقده. حاول أصدقاؤه مواساته قائلين: «يا فريدون، ما مضى قد مضى. الحزن عليه كشرب الماء المالح الذي لا يزيد العطش إلا عطشاً. انهض وابدأ من جديد، فإن الله هو فاتح الأبواب.» في البداية، لم يصغ فريدون، ولكن في يوم من الأيام، بينما كان يجلس في حديقة، نظر إلى زهرة شجرة بدت جافة في الشتاء. قال لنفسه: «لو كانت هذه الشجرة قد تحسرت على الربيع كل عام بعد أن تفقد أوراقها، لما أزهرت أبداً ولا أثمرت.» من تلك اللحظة، قرر فريدون أنه بدلاً من الغرق في الماضي، سيتعلم من أخطائه ويسعى مرة أخرى بالتوكل على الله. بدأ برأس مال صغير، وعمل بصبر ومثابرة، وسرعان ما استعاد ثروته المفقودة فحسب، بل وجد سلاماً في قلبه لم يجربه من قبل. كان هذا السلام ثمرة توكله، لأنه أدرك أن الماضي مهما كان، هو درج للوصول إلى حاضر ومستقبل مشرق، إذا تعلمت منه وتوكلت على الله.