هل السعي للظهور يتعارض مع الإخلاص؟

السعي للظهور يتعارض مع الإخلاص فقط عندما يكون القصد الأساسي هو كسب ثناء الناس أو منافع دنيوية. أما إذا كانت النية خالصة لله وكان الظهور نتيجة طبيعية للعمل، فلا يتعارض مع الإخلاص.

إجابة القرآن

هل السعي للظهور يتعارض مع الإخلاص؟

في التعاليم السامية للقرآن الكريم، يُعد مفهوم "الإخلاص" (إخلاص النية) أحد الأركان الأساسية للإيمان والعمل الصالح. والإخلاص يعني تنقية النية والعمل لله تعالى وحده، بحيث لا يشوبه أي رياء أو تفاخر أو طلب ثناء من المخلوق. والسؤال هنا: هل "السعي للظهور" يتعارض مع هذا المبدأ الهام من الإخلاص؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب تمييزًا دقيقًا بين "نتائج الظهور" و"الهدف من الظهور". هذا الفارق الدقيق والحيوي يحدد مصير أعمالنا الروحي. القرآن الكريم يذم الرياء والتفاخر بوضوح، ويعتبره من الصفات المذمومة ومن موانع قبول الأعمال. فالرياء يعني أداء عمل صالح بقصد أن يراه الناس ويحظى بإعجابهم، لا بقصد رضوان الرب. وقد أشارت آيات عديدة إلى هذا الموضوع. على سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 264، يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ". هذه الآية توضح بجلاء أن حتى الأعمال الخيرة كإنفاق المال، إذا أُديت بقصد الرياء والتفاخر، فإنها تفقد أي قيمة روحية وتصبح بلا أثر عند الله، لأن الهدف الأساسي من العبادة، وهو التقرب إلى الله، قد نُسي، وبدلاً من ذلك، أصبح اهتمام المخلوقين هو الهدف. ومثل هذا العمل لا يثاب عليه فاعله، بل قد يُعد ذنبًا، لأنه يتضمن شكلاً خفيًا من الشرك. وكذلك، في سورة الماعون، الآيات 4 إلى 6، يقول الله تعالى بلهجة توبيخية: "فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ". هذه الآيات تُظهر أن حتى العبادات كالصلاة، إذا أُديت بنية الرياء والعرض على الناس، لا تُقبل فحسب، بل تستوجب "الويل" (الهلاك أو العذاب). هذه الأمثلة تؤكد أن معيار قبول العمل في حضرة الله هو إخلاص النية، وليس المظهر الخارجي للعمل أو مدى تأثيره على الناس. الإخلاص هو روح العمل، وبدونه يكون جسد العمل هامداً وبلا فائدة. إذن، التناقض الأساسي بين الإخلاص و"السعي للظهور" يظهر عندما يكون الهدف الرئيسي من أداء العمل هو مجرد جذب الانتباه، أو كسب الثناء، أو الإعجاب، أو المنفعة المادية من الناس. في هذه الحالة، تفقد النية الخالصة لله، ويخرج العمل عن طبيعته العبادية. يُشار إلى هذه الحالة في الواقع بالشرك الخفي، لأن الشخص يهدف إلى رضوان المخلوقين إلى جانب رضوان الله، أو حتى يقدمه على الرضوان الإلهي. وقد وصف النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الرياء بأنه "الشرك الأصغر"، مما يدل على خطورته، لأنه يخرج الإنسان تدريجياً عن مسار التوحيد الخالص. فالذي يؤدي أعماله من أجل الناس، إنما هو عبد للناس، لا عبد لله. يصبح هذا الفرد أسيراً لمديح الآخرين وذمهم، ويفقد الحرية والسلام الروحي الذي ينبع من التوكل على الله. ولكن، هل كل ظهور يتعارض مع الإخلاص بذاته؟ بالطبع لا. فالعديد من الأعمال الصالحة تكون بطبيعتها عامة أو تظهر للعيان حتمًا بسبب تأثيرها الواسع. على سبيل المثال، عالم دين ينشر علمه، أو رجل أعمال خيّر ينفذ مشاريع نفع عام، أو مجاهد يقاتل في سبيل الله؛ قد تظهر أعمالهم للعلن بشكل طبيعي وتحظى بالإعجاب. في مثل هذه الحالات، إذا كانت نية الشخص الأساسية والأولية خالصة لرضا الله وخدمة خلقه، فإن الظهور وحتى الثناء من الناس لا يضر بالإخلاص فحسب، بل يمكن اعتباره نعمة من الله تشجع الآخرين على فعل الخير والصلاح. بعبارة أخرى، ليس المهم كم تُرى، بل المهم لماذا تريد أن تُرى. إذا كان الظهور وسيلة لتعزيز الخير (مثل تشجيع الصدقات أو أن تكون قدوة حسنة للشباب)، وكانت النية الأولية نقية، فلا حرج في ذلك. يكمن مفتاح التمييز هنا في "نية القلب". فقد قال النبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "إنما الأعمال بالنيات". هذا الحديث النبوي يوضح بجلاء أن قيمة العمل وثقله لا يكمنان في شكله الخارجي، بل في الدافع والقصد الداخلي لفاعله. إذا كان القصد خالصًا لله، حتى لو ظهر العمل، فإن الإخلاص يُحفظ. أما إذا كان القصد هو مجرد الظهور للناس، حتى لو أُدي العمل في الخفاء (مع نية أنه لو كان ظاهرًا لكان أفضل)، فإنه يظل خاليًا من الإخلاص. فالإخلاص هو تحرير الروح من قيود الاعتماد على التأييدات الخارجية. وفي بعض الحالات، يمكن أن يكون ظهور العمل الصالح مرغوبًا ومستحسنًا، بشرط أن تكون النية الأولية لله. على سبيل المثال، عندما يكون الغرض من إظهار العمل هو تشجيع الآخرين على فعل الخير، أو نشر سنة حسنة، أو الدفاع عن الحق. فقد قال الإمام علي (عليه السلام): "إذا أخفيت خيرًا، فأظهر خيرًا آخر، حتى تُروّج السُنة والطريقة الحسنة." هذا يدل على أنه في ظروف معينة وبنية صحيحة، يمكن أن يكون إظهار العمل مفيدًا، لأنه يمكن أن يدفع الآخرين نحو الخير ويُضيء طريق الصلاح. والفرق بين إظهار العمل لتشجيع الآخرين وبين الرياء يكمن في محور النية: ففي الأول، المحور هو الله وتعزيز الخير؛ وفي الثاني، المحور هو النفس ومدح الذات. في الختام، يمكن القول إن السعي للظهور، إذا كان الهدف الرئيسي والنية الداخلية للشخص منه هو كسب الثناء أو الشهرة أو المنافع الدنيوية بدلاً من رضوان الله، فإنه يتعارض قطعاً مع الإخلاص. هذا النوع من السعي ينبع من الكبرياء والأنانية ويجعل العمل بلا قيمة. أما إذا كان الظهور نتيجة طبيعية لعمل خالص أُدي بنية خدمة الله وخلقه، واستخدم الشخص هذا الظهور لأغراض صحيحة (مثل تشجيع الآخرين على فعل الخير أو أن يكون قدوة إيجابية)، فلا يتعارض هذا مع الإخلاص. في الواقع، المؤمن الحقيقي هو الذي يحافظ على نيته خالصة لله في كل الأحوال، سواء في الخفاء أو في العلن، ويطهر قلبه باستمرار من شوائب الرياء والعجب. الإخلاص هو صراع دائم مع النفس الأمارة ووساوس الشيطان التي تدفع الإنسان نحو طلب اهتمام المخلوقين، بينما يجب عليه أن يسعى لاهتمام الخالق وحده ويفضل رضاه على كل شيء آخر. الإخلاص هو جوهر يحرر العمل من سراب المظاهر ويربطه بنبع الحقيقة.

الآيات ذات الصلة

قصة قصيرة

في حكايات گلستان سعدي، يُروى أن رجلاً ثرياً وطموحاً قرر بناء مسجد فخم ومهيب. وخلال البناء، كان يحث المهندسين والمعماريين باستمرار على جعله مذهلاً للعيون، وعلى أن يخلّد اسمه على ألسنة الناس إلى الأبد. كانت كل حجر يضعه مصحوباً بنية أن يتحدث الناس عن عظمة بنائه. بعد الانتهاء من العمل، تدفقت جموع من أهل البلد لزيارة المسجد والإشادة به. كان الرجل مسروراً جداً، وكان يقول في نفسه: "هذه هي الخلود!" مر بعض الوقت. في نفس البلدة، كان يعيش رجل فقير أشبه بالدرويش. كلما حصل على مبلغ قليل من المال، كان يساعد به سراً، دون أن يعلم أحد، مسجداً صغيراً في حي فقير. كان يشتري أحياناً لبنة واحدة، وأحياناً قليلاً من الجبس، وأحياناً كان ينظف الأوساخ من المسجد بيديه. لم يكن يسعى وراء اسم أو شهرة. كانت نيته الوحيدة هي كسب رضوان الله، وتوفير مكان لعبادته. لم يعلم أحد بأعماله، إلا الله. ذات ليلة، رأى الرجل الثري في المنام أن ملكاً يقول له: "المسجد الذي بنيته بكل هذا الفخار، قد أخذت أجره الدنيوي من الناس، ولكن في السماء ليس لك ثواب، لأن نيتك كانت الشهرة لا رضانا. أما ذلك المسجد الصغير في حي بعيد، فكل لبنة وضعها ذلك الدرويش النقي، قد زينت عرشنا، لأن نيته كانت طاهرة ولم يكن في حسبانه إلا نحن." استيقظ الرجل الثري خائفاً ونادماً، وأدرك أن السعي للظهور، بدون إخلاص، باطل وعديم الثمر.

الأسئلة ذات الصلة