نعم، يعتبر القرآن الإنسان كائناً ذا ميل فطري نحو الحقيقة والتوحيد. هذه الفطرة، بالإضافة إلى القدرة على التعقل، ترشده إلى معرفة الله وهدف الخلق.
نعم، بالتأمل في التعاليم القرآنية، يتضح لنا جلياً أن القرآن الكريم يعتبر الإنسان كائناً ذا ميل فطري وجبلي نحو الحقيقة والتوحيد. هذا البحث عن الحقيقة ليس مجرد سمة مكتسبة، بل هو بعد عميق الجذور في تكوين البشرية. فالقرآن لا يؤكد هذه السمة فحسب، بل يدعو البشر مراراً وتكراراً لاستغلال هذه الإمكانية الداخلية، ويشجعهم على التفكر والتعقل والتدبر والنظر في آيات الله في الآفاق والأنفس. وهذا التركيز على التفكر بحد ذاته هو علامة واضحة على أن الإنسان يمتلك القدرة والرغبة في اكتشاف الحقيقة في جوهره. أحد أهم المفاهيم القرآنية التي تؤكد على هذا البعد الفطري هو مفهوم «الفطرة». ففي سورة الروم، الآية 30، نقرأ: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (فأقم وجهك للدين حنيفاً؛ فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). هذه الآية تبين بوضوح أن الإنسان خُلِق بميل جوهري نحو الدين الحق والتوحيد. هذه الفطرة هي حالة أولية ونقية تدفع الإنسان نحو قبول الله الواحد والحقائق الإلهية، ما لم تؤثر عوامل خارجية أو تربية خاطئة على انحرافها. هذه الفطرة هي المحرك الداخلي للبحث عن الحقيقة. كما يؤكد القرآن في آيات عديدة على أهمية التعقل والتفكر. فقد ورد في القرآن أكثر من 700 مرة مشتقات لكلمات مثل «عقل»، «فكر»، «تدبر»، «تذكر»، و«نظر». هذا التكرار الواسع يدل على القيمة العالية للتفكير والعقلانية في المنظور القرآني. يُدعى البشر إلى النظر بعناية إلى محيطهم، وإلى خلق السماوات والأرض، وإلى الظواهر الطبيعية مثل المطر والرياح والسفن في البحر، وحتى إلى خلق أنفسهم. ويحثهم القرآن على استخدام هذه الظواهر كـ«آيات» أو علامات للوصول إلى الحقيقة. فعلى سبيل المثال، في سورة البقرة، الآية 164، جاء: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون). هذه الآية تبين صراحة أن هذه الظواهر ليست مجرد وجود، بل هي تحمل علامات لمن يتعقلون، تقودهم نحو الحقيقة. بالإضافة إلى ذلك، يدعو القرآن البشر مراراً وتكراراً إلى التأمل في وجودهم. ففي سورة الذاريات، الآيتين 20 و 21، يقول: «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ» (وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟). هذه الدعوة إلى التدبر في الذات واكتشاف عجائب الوجود البشري، هي نوع عميق من البحث عن الحقيقة. فمعرفة الذات هي مفتاح معرفة الرب، وهذا المسار ينبع من فطرة الإنسان التي تسعى للحقيقة. كما يذم القرآن، في المقابل لهذا الميل الفطري، أولئك الذين لا يستخدمون عقولهم أو يتجاهلون الحقيقة عمداً. يصفهم بأنهم «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» ويذكر أنهم بسبب عدم استخدامهم لقواهم الإدراكية والعقلية، لا يستطيعون فهم الحقائق. وهذا الذم بحد ذاته يؤكد أن الإنسان يمتلك الأدوات والقدرة اللازمة لفهم الحقيقة، وأن عدم استخدامها هو اختيار يؤدي إلى الضلال. وهكذا، من منظور القرآن، خُلِق الإنسان مع هاجس داخلي لإيجاد المعنى والهدف وحقيقة الخلق. وقد أُرسل الوحي الإلهي لاستكمال وتوجيه هذا البحث الفطري عن الحقيقة، ليمهد الطريق للبشرية نحو الوصول إلى الكمال والمعرفة الحقيقية لله. هذه رحلة دائمة وديناميكية تستمر طوال حياة الإنسان، وتبدأ من لحظة الخلق الأولى.
يُروى أن رجلاً حكيماً كان يتجول ذات يوم في بستان، يشبه ما وصفه سعدي في بستانه، يتأمل كل ورقة وغصن بدقة. سأله تلميذ كان يرافقه: «يا معلم، ماذا تطلب في هذه الأشجار البسيطة؟» ابتسم الرجل الحكيم وقال: «يا ولدي، كل ما في العالم هو آية للقلوب اليقظة. في تساقط هذه الأوراق، وفي تفتح البراعم، وفي طيران الطيور، تكمن كل الحكمة لمن يملك عيناً بصيرة وقلباً باحثاً عن الحقيقة. فمن لا يطلب الحقيقة في داخله وحوله، لن يجدها أبداً، حتى لو قرأ كل كتب الدنيا.» عند سماع هذا القول، غرق التلميذ في التفكير وأدرك أن البحث عن الحقيقة رحلة تبدأ من الذات وتمتد في كل الاتجاهات، ومفتاحها يكمن في الفضول والتأمل.