يحدد القرآن الهدف الرئيسي للحياة على أنه 'العبادة' و 'الخلافة الإلهية على الأرض'؛ أي حياة يسعى فيها الإنسان، من خلال العبودية الخالصة لله، لإعمار الأرض وإصلاحها. يشمل هذا المسار معرفة الله، والإيمان، والعمل الصالح، والتوكل عليه لتحقيق السعادة الأخروية.
لقد طرحت سؤالاً عميقاً ومهماً جداً يلامس الفطرة البشرية: 'ما هو الهدف من حياتي؟' لحسن الحظ، القرآن الكريم لا يقدم لك طريقة لإيجاد هدف حياتك فحسب، بل يحدد الهدف بوضوح ويرسم إطاراً شاملاً لحياة هادفة. في الواقع، إن أعظم هدية تمنحنا إياها الوحي الإلهي هي هذه البصيرة العميقة حول معنى الوجود البشري ووجهته النهائية. دعنا ننطلق معاً في هذه الرحلة الاستكشافية عبر الآيات الإلهية لنكشف سر الحياة الهادفة في ضوء القرآن. يصرح القرآن الكريم بوضوح أن الهدف الأساسي من خلق الجن والإنس هو 'العبادة'. يقول الله تعالى في سورة الذاريات، الآية 56: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". هذه الآية تمثل النقطة المحورية في فهم هدف الحياة من منظور قرآني. ولكن ما هو المقصود بـ 'العبادة'؟ هل تقتصر فقط على أداء الشعائر التعبدية مثل الصلاة والصيام والحج؟ قطعاً لا. في الرؤية القرآنية، للعبادة مفهوم أوسع وأشمل بكثير. إنها تعني العبودية، الطاعة، الاستسلام والخضوع للإرادة والأوامر الإلهية. هذه العبودية تشمل جميع جوانب حياة الإنسان؛ من العلاقات الفردية والاجتماعية إلى الأنشطة المهنية والاقتصادية، وحتى النوم واليقظة، إذا أُدّيت بنية خالصة وفي سبيل رضا الله، يمكن اعتبارها من مظاهر العبادة. كل عمل خير، كل طلب للعلم، كل مهنة حلال تُؤدّى لخدمة الخلق، كل صبر على الشدائد، كل شكر على النعم، وكل سعي نحو النمو والارتقاء الفردي والاجتماعي – كل هذه الأمور يمكن أن تندرج تحت نطاق العبادة الواسع، شريطة أن تكون مصحوبة بالوعي ونية عبادة الله. الهدف الثاني والمكمل للهدف الأول هو 'الخلافة الإلهية' على الأرض. في سورة البقرة، الآية 30، نقرأ: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ". هذه الآية تشير إلى أن الإنسان لم يُخلق لمجرد عبادة الله بشكل سلبي، بل إنه يحمل مسؤولية عظيمة كنائب (خليفة) لله على الأرض. هذه المسؤولية تتضمن إعمار الأرض، إقامة العدل، الاستفلال الأمثل للنعم الإلهية، الحفاظ على البيئة، توجيه المجتمع نحو الخير والصلاح، ومنع الفساد والتدهور. بفضل قوة الفكر والاختيار والإرادة التي منحها الله للإنسان، يمكنه أن يكون ممثلاً جديراً لتحقيق الإرادة الإلهية في العالم. هذه الخلافة لا تعني الاستغلال المفرط للموارد، بل تعني الأمانة والإشراف والإدارة المسؤولة. لذلك، فإن هدف الحياة في القرآن ذو شقين: من ناحية، اتصال عميق وعبودية خالصة لخالق الكون، ومن ناحية أخرى، دور فاعل وبناء في إعمار وإصلاح الأرض كنائب عنه. هذان الهدفان مترابطان تماماً؛ فعبودية الله تمنح الإنسان بصيرة وقوة ليتمكن من أداء خلافته على أفضل وجه، وتصبح الخلافة على الأرض ميداناً لتجسيد العبودية والطاعة للأوامر الإلهية. لتحقيق هذه الأهداف، يقدم القرآن الكريم مسارات واضحة للإنسان: 1. معرفة الله: الخطوة الأولى هي معرفة الرب؛ معرفة صفاته، أسمائه، قدرته وحكمته. تتحقق هذه المعرفة من خلال التفكر في آيات الآفاق (علامات الله في الكون) وآيات الأنفس (علامات الله في وجود الإنسان نفسه). فكلما ازداد الإنسان فهماً لعظمة الله وحكمته، أصبحت عبادته أعمق وأكثر هادفية. 2. الإيمان والتقوى: الإيمان بالله واليوم الآخر هو العمود الفقري للحياة الهادفة. والتقوى تعني تجنب المعاصي وأداء الواجبات الإلهية. هذا الإيمان والتقوى بمثابة خريطة طريق لجميع قرارات الإنسان وأفعاله في الحياة، محافظاً عليه على المسار الصحيح. 3. تلاوة القرآن والتدبر فيه: القرآن هو كتاب الهداية والنور. من خلال تلاوته والتدبر في آياته، يمكن للإنسان أن يجد التوجيهات الإلهية للحياة ويدرك عمق هدفه. كل آية هي بوابة للحقيقة ودليل لتحقيق الكمال. 4. العمل الصالح والإحسان: يؤكد القرآن مراراً على 'العمل الصالح'. ويشمل العمل الصالح كل فعل خير يُؤدّى بنية خالصة ووفقاً لرضا الله. تعود هذه الأعمال بالنفع على الفرد والمجتمع على حد سواء. الإحسان إلى الوالدين، مساعدة المحتاجين، إقامة العدل والقسط، ومراعاة حقوق الآخرين، هي أمثلة على الأعمال الصالحة التي تقرب الإنسان من هدفه الأسمى. 5. الصبر والتوكل: حياة الإنسان مليئة بالتحديات والاختبارات. الصبر في مواجهة الصعوبات والتوكل على الله أدوات مهمة للحفاظ على الثبات في مسار الهدف. تساعد هذه الصفات الإنسان على عدم نسيان هدفه وسط تقلبات الحياة وعلى عدم الانحراف عن المسار. 6. التوجه نحو الآخرة: يوضح القرآن بوضوح أن هذه الحياة الدنيا ليست سوى جسر للوصول إلى الآخرة. الهدف النهائي هو تحقيق رضا الله والسعادة الأبدية في الجنة. عندما يدرك الإنسان أن جميع أعماله في هذه الدنيا ستُوزن في ميزان العدل الإلهي، فإن حياته تكتسب معنى أعمق، وتتجه جميع جهوده نحو تحقيق هذا الهدف الأكبر. في الختام، يمكن القول إن القرآن الكريم لا يجيب على سؤال 'ما هو هدفي؟' فحسب، بل يوضح أيضاً طريق الوصول إلى هذا الهدف. الحياة الهادفة من منظور قرآني تعني حياة يُقضى فيها كل نَفَس، وكل عمل، وكل لحظة في ذكر الله وفي سبيل عبوديته وخلافته. هذا النوع من الحياة ينقذ الإنسان من الضياع والعبثية، ويجلب له السكينة والرضا والسعادة المستدامة التي تتجاوز اللذات الدنيوية الزائلة. لتحقيق هذا الهدف، يحتاج الإنسان إلى السعي المستمر للتطور والتصحيح الذاتي، وتقوية علاقته بالله، والعمل دائماً لخدمة نفسه وعائلته ومجتمعه وبيئته. هذه رحلة ديناميكية ومستمرة تستمر حتى آخر لحظات الحياة، ومع كل خطوة صغيرة، يقترب الإنسان أكثر من وجهته النهائية. لذا، إذا كنت تبحث عن هدف لحياتك، فالقرآن الكريم هو الدليل الذي لا مثيل له والذي سيرشدك إليه.
يروى أن ملكاً كان يسير في حديقة غناء، مليئة بالزهور والأشجار الخضراء، يستمتع بجمال الدنيا. وفي الحديقة نفسها، رأى درويشاً بسيط القلب جالساً تحت ظل شجرة، منشغلاً بالذكر والدعاء. اقترب الملك منه بغطرسة وقال: "أيها الدرويش، ماذا تملك في هذه الدنيا؟ وما معنى حياتك؟" رد الدرويش بابتسامة هادئة: "أيها الملك، كل من يراني يسألني: 'ماذا تملك؟' أما أنا فأسأل نفسي: 'ماذا ستأخذ معك؟' ما أملكه هو سكينة القلب التي تأتي من ذكر الله، وهدفي هو رضاه، وكل عمل أقوم به هو خطوة نحوه. ولكن أنت، بكل هذا العظمة، ماذا ستحمل معك إلى الدار الآخرة؟" توقف الملك لحظة وغرق في التفكير. استقرت كلمات الدرويش على قلبه كنسيم بارد، مذكّرة إياه بأن الهدف الحقيقي للحياة يتجاوز جمع الثروة والقوة الدنيوية؛ بل يكمن في العبودية والسير نحو الكمال والمعرفة الإلهية. أدرك أن الدرويش، على الرغم من افتقاره لممتلكات الدنيا، يمتلك هدفاً أعظم وقد حقق طمأنينة حقيقية.