ينفي القرآن الرؤية المادية لله في الدنيا، لكنه يشير إلى إدراك قلبي وشهودي ومعرفي عميق لوجوده وآياته، يتحقق بالتأمل والعبادة.
الإدراك المباشر لله، أو ما يُعرف بالشهود الإلهي، مفهوم عميق ومتعدد الأوجه حظي بتفسيرات متنوعة بين العلماء والعارفين المسلمين على مر التاريخ. القرآن الكريم لا يشير بشكل صريح ومباشر إلى "رؤية" الله بالعين المجردة في هذا العالم، بل وينفي ذلك. ومع ذلك، فإنه يشير مرارًا وتكرارًا إلى أشكال أخرى من الإدراك العميق، والمعرفة الباطنية، والشهود القلبي لله وحضوره، والتي يمكن تفسيرها كنوع من "الإدراك المباشر"، وإن لم يكن من النوع الحسي أو المادي. دعونا نُناقش هذا الموضوع بمزيد من الدقة. يؤكد القرآن الكريم في آيات عديدة أن الله تعالى أسمى من إدراك حواسنا المادية. ومن أوضح الآيات في هذا الصدد الآية 103 من سورة الأنعام، التي تقول: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير). هذه الآية تنفي صراحةً إمكانية رؤية الله بالعين المجردة. علاوة على ذلك، قصة طلب النبي موسى (عليه السلام) رؤية الله في سورة الأعراف (الآية 143) هي دليل آخر على هذا الادعاء. عندما قال موسى: "رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ"، أجاب الله: "لَن تَرَانِي"، ثم تجلى سبحانه للجبل فجعله دكًا. تشير هذه الآيات بوضوح إلى أن الإدراك الحسي والمادي لله مستحيل على البشر في هذا العالم. مع ذلك، فإن نفي رؤية الله بالعين المجردة لا يعني نفي أي شكل من أشكال "الإدراك المباشر" أو "الشهود". يؤكد القرآن مرارًا وتكرارًا على حضور الله الدائم، وقربه من الإنسان، وآياته في الآفاق وفي الأنفس، وكل ذلك يمكن أن يؤدي إلى معرفة عميقة وتجريبية بالله. على سبيل المثال، تقول الآية 53 من سورة فصلت: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ" (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). تدعو هذه الآية إلى التأمل والتفكير في الخلق وفي وجود الإنسان نفسه؛ تأمل يمكن أن يؤدي إلى فهم حدسي وقلبي للخالق. بالإضافة إلى ذلك، تقول الآية 16 من سورة ق: "وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ" (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). هذا القرب الاستثنائي من الله يوفر أساسًا لعلاقة عميقة وداخلية تتجاوز أي وسيط. لا يشير هذا القرب إلى حضور مادي، بل إلى حضور إحاطي وعلمي ومُحسٍّ يمكن أن يشعر به المؤمن في قلبه ويؤدي إلى نوع من الشهود القلبي. مفهوم "الإيمان" في القرآن ليس مجرد اعتقاد فكري، بل هو حالة من التسليم، واليقين، والسكينة القلبية التي تنبع من فهم أعمق وتجربة للحقائق الإلهية. المؤمن الحقيقي هو الذي أدرك الله ليس فقط بالعقل، بل بوجوده وقلبه كله. وهذا هو "اليقين" الذي يتحقق في المراحل العليا من الإيمان، والذي يعتبره العارفون بمثابة الرؤية بعين القلب. خلاصة القول، ينفي القرآن الكريم الإدراك المادي لله، ولكنه يشير مرارًا وتكرارًا إلى الإدراك القلبي، والشهودي، والمعرفي الذي يتحقق من خلال التأمل في الآيات الإلهية، والذكر، والإخلاص في العبادة. هذا النوع من الإدراك، وإن كان يختلف عن الرؤية بالعين، إلا أنه بطريقته الخاصة "مباشر" وغير وسيط، لأنه يحدث في أعماق النفس والروح، ويقرب الإنسان من حقيقة لا يمكن التعبير عنها بأي كلمات أو صور. هذا "الشهود" هو ما يشير إليه العارفون بـ"الرؤية بعين القلب" أو "تجربة الحضور الإلهي"، ويعتبرونه ذروة القرب الإلهي. لذلك، يمكن القول إن القرآن يوفر الأساس لإدراك مباشر وباطني لله، على الرغم من أن هذا الإدراك يختلف في طبيعته عن الإدراك الحسي والمادي. يؤدي هذا النوع من الإدراك إلى الارتقاء الروحي والسلام القلبي، ويساعد الأفراد في طريقهم إلى العبادة الخالصة والمعرفة الأعمق بربهم.
في بستان سعدي، يُروى أن عابدًا قضى سنوات في جبل، يتعبد دائمًا طالبًا المعرفة والإدراك الحقيقي لله. ذات يوم، سأل شيخه: "كيف يمكن للمرء أن يرى الرب ويدرك حقيقته؟" فأجابه الشيخ: "يا بني، رؤيته بالعين المجردة غير ممكنة، فـ'لا تدركه الأبصار'. ولكن من ينظر في مرآة قلبه ويمسح عنها غبار الذنوب والغفلة، سيجد آياته في كل ذرة من الوجود وفي كيانه كله. حينئذ، يشرق نور المعرفة على القلب كالشمس المشرقة، ويدرك الإنسان حضورًا أوضح من أي رؤية. وكما قال سعدي: 'من نظر بعين واحدة للحبيب، رأى الحبيب في كل شيء'. وهكذا، فإن طريق الرؤية لا ينبعث من العين، بل من قلب واعٍ ونقي.