لتحقيق الرضا بقضاء الله وقدره، يجب الإيمان بحكمة الله المطلقة، والتوكل عليه بعد بذل الجهد، والصبر عند الشدائد، والشكر على النعم. هذا النهج القلبي يجلب السكينة والقبول، ويحرر من القلق.
الرضا بقضاء الله وقدره من أسمى مراتب الإيمان، وهو يمثل جوهر تسليم المؤمن لخالقه العظيم. لكي يصل الإنسان إلى هذه المنزلة الرفيعة، يجب عليه أن يدرك عدة حقائق أساسية عن الله تعالى وعن طبيعة هذه الحياة الدنيا. أولاً وقبل كل شيء، يتعلق الأمر بفهم عمق علم الله وحكمته المطلقة. فالله سبحانه وتعالى هو العليم الحكيم، لا يقع شيء في ملكوته إلا بعلمه وإرادته المحكمة. عندما يدرك المؤمن أن كل ما يصيبه، من خير أو شر، هو جزء من تدبير إلهي محكم، وأن وراء كل حدث حكمة بالغة قد لا يدركها عقله البشري القاصر، يبدأ قلبه في السكون والاطمئنان. القرآن الكريم يوضح هذا المعنى في سورة البقرة، الآية 216: "وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". هذه الآية توضح بجلاء أن نظرتنا القاصرة قد لا ترى الخير في الشدائد، ولكن علم الله المطلق يرى الحكمة والخير الخفي في كل ما يقدره. من أهم الطرق لتحقيق الرضا هي التوكل على الله حق التوكل. التوكل ليس مجرد كلمة تقال، بل هو حالة قلبية عميقة تجمع بين بذل الجهد والأسباب المتاحة، ثم تفويض الأمر لله تعالى والثقة المطلقة في تدبيره. فالمؤمن يسعى ويعمل ويجتهد بكل ما أوتي من قوة، لكنه لا يعلق قلبه بالنتائج، بل يعلم أن النتائج بيده سبحانه وحده. فإذا أصابه ما يحب، شكر الله. وإذا أصابه ما يكره، صبر واحتسب وأيقن أن الخيرة فيما اختاره الله له. هذا ليس دعوة للكسل أو التقاعس عن العمل والسعي في طلب الرزق والمعيشة، بل هو دعوة للجمع بين السعي الجاد والتسليم التام لله بعد ذلك. سورة الطلاق، الآية 3، تؤكد هذا المعنى بقوله تعالى: "وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا". هذه الآية تعطي المؤمن طمأنينة لا تضاهيها طمأنينة، فمن كان الله حسبه وكافيه، لا يخشى شيئاً ولا يقلقه أمر. الصبر والشكر هما جناحان للرضا. الصبر على البلاء والشدائد، والشكر على النعم والعطايا. القرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث على الصبر، وتعد الصابرين بالأجر العظيم. "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين" (البقرة: 153). فالصبر ليس مجرد تحمل للألم والشدة، بل هو حبس النفس على ما تكره ابتغاء وجه الله، مع استشعار حكمة الله في هذا البلاء. وقد يكون البلاء تطهيراً من الذنوب، أو رفعاً للدرجات، أو سبباً لفتح أبواب رحمة لم تكن لتفتح لولا هذا الابتلاء. أما الشكر، فهو الاعتراف بنعم الله الظاهرة والباطنة، والتعبير عن الامتنان قولاً وعملاً. حتى في المصائب، يمكن للمؤمن أن يجد جوانب للشكر، كأن يشكر الله أن المصيبة لم تكن أكبر، أو أنها لم تكن في دينه، أو أنه سيؤجر عليها أجراً عظيماً. فالشكر يفتح أبواب المزيد من النعم والرضا، كما قال تعالى: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ" (إبراهيم: 7). كذلك، يساهم الدعاء والتضرع إلى الله بشكل كبير في تحقيق الرضا. عندما يرفع العبد يديه إلى خالقه، يشعر بالضعف والافتقار التام إلى الله، ويدرك أن لا حول ولا قوة إلا بالله. هذا الشعور يجعله أكثر تقبلاً لما يأتي به القدر، لأنه يعلم أن الله يسمع دعاءه، ويستجيب له بما فيه الخير، حتى لو كانت الاستجابة في غير الصورة التي يتوقعها أو يفضلها. الدعاء هو حبل الوصل الذي يربط قلب العبد بالله، ويمنحه الطمأنينة حتى في أحلك الظروف وأصعبها، فهو يعلم أن أمره كله بيد خالقه الرحيم. الرضا بقضاء الله وقدره ليس شعوراً سلبياً بالاستسلام أو الكسل، بل هو قوة إيجابية تدفع المؤمن إلى الأمام بعزيمة وثقة. إنه يحرر القلب من سجن القلق على المستقبل، والندم على الماضي، والحسد على ما في أيدي الآخرين. يجعل الإنسان يعيش الحاضر بكل ما فيه من سعادة وشكر، ويستقبل المستقبل بقلب مطمئن وراضٍ بما يأتيه من الله. هو ليس نهاية المطاف في السعي والاجتهاد، بل هو بداية الحياة الحقيقية، حياة مليئة بالسلام الداخلي واليقين والثقة التامة في الله وتدبيره. هذا الإيمان هو مفتاح السعادة والراحة في الدنيا والآخرة، ويجعل الإنسان يتقبل كل الأقدار بقلب سليم ونفس مطمئنة.
يحكى أن درويشاً قانعاً، وإن كانت يداه خاليتين من الفضة والذهب، فإن قلبه كان أخلى من الحزن والخوف. فسأله أحدهم: "كيف لا تحزن ولا تغتم مع كل هذا الفقر، وتظل دائماً سعيداً؟" فابتسم الدرويش وقال: "يا صديقي، أنا راضٍ بقضاء الله، فإني أعلم أن رزق كل دابة على الله، وهو أعلم بحال عباده. أنا أبذل جهدي وأترك الباقي له سبحانه. كيف أحزن وأنا أعلم أنه لا ينسى عباده أبداً؟ هذا اليقين والتوكل قد أطلقاني من كل حزن وأنار قلبي بنور الرضا." تذكرنا هذه القصة أن السلام الداخلي الحقيقي يكمن في القبول والتوكل على الحكمة الإلهية، لا في امتلاك متاع الدنيا.