للتعلّق بالله والتحرر من الدنيا، يجب فهم طبيعة الدنيا الفانية وخلود الآخرة، وتطمئن القلوب بالذكر الدائم لله وتفضيل الآخرة. يتطلب هذا المسار التأمل في العظمة الإلهية ومصاحبة الصالحين، لينشأ التعلق الحقيقي بالله عز وجل ويحقق الإنسان السلام والرضا الدائمين.
إن التعلق بالله والتحرر من قيود الدنيا هو من أعمق وأهم الأهداف في رحلة الإنسان الروحية، وقد تناوله القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا بطرق متنوعة. هذه العملية لا تعني مجرد الانسحاب من الدنيا وملذاتها، بل تعني تغيير محور الاهتمام وإعادة تقييم القيم؛ أي رؤية الدنيا كوسيلة للوصول إلى الآخرة وواسطة للقرب الإلهي، لا غاية نهائية. بلهجة رحيمة وإرشادية، يعلمنا القرآن كيف نحرر قلوبنا من أسر بريق الدنيا الزائل ونربطها بمصدر الوجود، وهو الله تعالى. الخطوة الأولى في هذا المسار هي المعرفة الصحيحة لطبيعة الدنيا والآخرة. يوضح القرآن بجلاء أن الحياة الدنيا متاع زائل ومخادع، بينما الآخرة هي الدار الباقية والخالدة. ففي سورة الحديد الآية 20، يشبه الله الدنيا باللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا. تقدم هذه الآية صورة بليغة عن زوال الدنيا. إن الفهم العميق لهذه الحقيقة بأن كل ما نملكه في الدنيا زائل وأن الباقي هو الأعمال الصالحة والارتباط بالله، يحرر قلب الإنسان من التعلقات الكاذبة. عندما يعلم الإنسان أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا وأن "الباقيات الصالحات"، أي الأعمال الصالحة وذكر الله، خير عند ربه ثوابًا وخير أملًا (سورة الكهف، الآية 46)، تتغير نظرته إلى الدنيا. فلا يراها غاية آماله، بل جسرًا للوصول إلى الخلود والقرب الإلهي. الركن الثاني الأساسي هو الذكر الدائم لله تعالى. يؤكد القرآن الكريم أن الطمأنينة الحقيقية للقلوب لا تتحقق إلا بذكر الله. في سورة الرعد الآية 28، يقول الله تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب). الذكر لا يعني مجرد تكرار الكلمات، بل هو حالة من حضور القلب والانتباه المستمر لله في جميع شؤون الحياة. وكلما زاد الإنسان ذكرًا لله ورآه حاضرًا وناظرًا لأعماله، قل انجذابه نحو المعاصي والتعلقات الدنيوية. الصلوات الخمس، تلاوة القرآن، التسبيح، وكل عمل يحيي ذكر الله في القلب، هي من أمثلة الذكر. هذا الارتباط المستمر يغرس تدريجيًا جذور المحبة الإلهية في القلب ويطهره من شوائب الدنيا. السبيل الثالث هو الامتناع عن الإفراط في ملذات الدنيا وتفضيل الآخرة عليها. يحذر القرآن الناس من الإفراط في التعلق بالدنيا وينبه إلى أفضلية الآخرة. في سورة الأعلى الآيتين 16 و 17، يقول تعالى صراحة: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ" (بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى). هذا التفضيل لا يعني ترك الدنيا، بل يعني النظر الصحيح إليها. فبدلاً من جمع الثروة بلا حدود والانغماس في الملذات الزائلة، يجب الاستفادة من الدنيا بقدر الحاجة وتخصيص الجزء الأكبر من الطاقة والجهد للآخرة. الإنفاق في سبيل الله، ومساعدة المحتاجين، والقيام بالأعمال الخيرية، لا يحرر القلب من التعلق بالمال فحسب، بل يقربه أيضًا من المكافآت الأخروية والقرب الإلهي. يلوم القرآن الكريم أولئك الذين يفضلون الدنيا على الآخرة ويعتبر نتيجة هذا العمل خسارة وخسرانًا. الجانب الرابع هو التأمل في الآيات الإلهية وعلامات قدرة الله في الخلق. كلما نظر الإنسان إلى السماء والأرض والجبال والبحار والكائنات الحية وتدبر في عظمتها ونظامها، أدرك قوة الخالق وحكمته. هذا التأمل يقود الإنسان إلى معرفة أعمق بالله ويزيد محبته في القلب. عندما يرى الإنسان أن الوجود كله يتحرك بنظام دقيق وأن الله قد تكفل برزق جميع المخلوقات، يزداد توكله على الله ويتحرر من التعلق بالأسباب الظاهرية للدنيا. هذه النظرة تفتح عين القلب وتزيل حجاب الغفلة. النقطة الخامسة، مصاحبة الصالحين والابتعاد عن البيئات المادية. يتأثر الإنسان لا شعوريًا بمن يعاشرهم. فمصاحبة الأشخاص الذين يذكرون الله، ويهتمون بالآخرة، ولديهم اهتمامات روحية، تساعد الإنسان في طريق التعلق بالله. يشجع القرآن المؤمنين على مصاحبة الصادقين والمتقين. وعلى العكس من ذلك، فإن مصاحبة الذين لا يفكرون إلا في الدنيا وملذاتها يمكن أن تسحب قلب الإنسان نحو الدنيا وتجعله غافلاً عن ذكر الله. في الختام، إن التعلق بالله عملية تدريجية تتطلب جهادًا واستمرارية. فمع كل صلاة، وكل تلاوة للقرآن، وكل ذكر، وكل عمل صالح، وكل مساعدة للمحتاج، يقترب قلب الإنسان خطوة واحدة من الله ويصبح أكثر نقاءً من شوائب الدنيا. هذا المسار هو رحلة داخلية تبدأ بالحب والوعي وتصل إلى غايتها بالتوكل واليقين. وكلما تعمق هذا التعلق، ازداد سلام الفرد الداخلي ورضاه، وسيختبر حياة أكثر ثراءً، لأن جميع أعماله ستأخذ صبغة إلهية وتُفعل لرضا المعبود، لا لكسب متاع الدنيا الفاني. وهذا هو المعنى الحقيقي للتحرر.
يُروى أن تاجراً ثرياً يُدعى بهرام، كانت شهرة قوافله العظيمة وكنوزه التي لا تُحصى تملأ الآفاق، كان يعيش باستمرار في قلق واضطراب خوفاً من فقدان ثروته. ذات يوم، في رحلة، التقى بدرويش متواضع يُدعى الشيخ خسرو، كان يعيش في كوخ صغير، لا يملك سوى سجادة صلاة وبعض الكتب البالية. ومع ذلك، كان هدوء عميق ينبعث من الشيخ، وكانت عيناه تتلألآن بنور داخلي. اقترب بهرام، مندهشاً من هذا التباين، من الدرويش وقال: 'يا شيخ الحكيم، أملك ما يحلم به معظم الناس — ثروة لا تُحصى. ومع ذلك، قلبي لا يعرف السلام، وأيامي مليئة بالقلق. أنت، الذي لا تملك شيئًا، تبدو وكأنك تعيش في هدوء دائم. ما سر طمأنينتك؟' ابتسم الشيخ خسرو بلطف وأجاب: 'يا عزيزي بهرام، لقد ربطت قلبك بالسفن التي تبحر في البحار الخطرة وبالكنوز الزائلة التي تحملها. فإذا غرقت عواصف سفنك، أو نهب قطاع الطرق قافلتك، فسوف يتحطم قلبك. أما أنا يا بهرام، فقد ربطت قلبي بالرب الرحيم الذي يأمر الرياح ويحمي كل شيء. ثروتي في ذكره، وفرحتي في قربه. ما يأتيني هو منه، وما يذهب، يذهب بإرادته. لذلك، يبقى قلبي ثابتاً دائمًا، لأن مرساته في الأبدية، لا في الأشياء الزائلة.' فكر بهرام في كلمات الدرويش بعمق، أدرك أن الغنى الحقيقي لا يكمن فيما يمتلكه المرء، بل فيما يرتكز عليه قلبه حقًا.